لقد بات لمفهوم الدراما دور محوري في حياتنا المعاصرة وسياقاتها الثقافية والمجتمعية، حتي أن أغلب علماء علم الاجتماع المعرفي يعتبرونها "ظاهرة من ظواهر التاريخ الأدبي، ووثيقة من وثائق التاريخ الإنساني"، ومع تجسد الأحداث اليومية التي تشكل النواة الأساسية للتاريخ الإنساني، أصبح السرد التليفزيوني هو البديل المثالي لتسجيل حركة التاريخ القادمة من رحم تلك الأحداث، جراء تطور صناعة الفعل الدرامي وتداعياته اللافتة للانتباه. وهو ما يؤكد نبوءة أرسطو في "كتاب الشعر" والتي تقول : "إن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت، ولكن الدراما تكتب الأحداث كما كان ينبغي أن تقع"، ومن ثم فقد وعي صناع المسلسلات التليفزيونية مؤخرا إلي حقيقة تأثير هذا الفعل الدرامي في كتابة التاريخ، في ظل تراجع معدلات القراءة في عالمنا العربي بشكل مخجل، ما جعل المنافسة الشرسة في صناعة الدراما تشتد من عام إلي آخر بسبب دخول دماء جديدة من المؤلفين والمخرجين والممثلين في ملعب النجوم الكبار ولعل موسم رمضان الدرامي الحالي يشهد الآن جانبا أكبر من هذا الصراع علي مستوي النجوم الكبار، وجيل الوسط، والشباب الجدد، الذين انخرطوا في حرب تكسير عظام من خلال أعمال تجنح في مجملها نحو (الأكشن، البوليسي، الكوميديا، التراجيديا النفسية، الفانتازيا الكوميدية) والأخيرة كنت أتمني أن يعول عليها الصناع في جل أعمالهم هذه السنة، نظرا لحاجتنا الماسة إلي الضحك من القلب، في سبيل إحداث قدر من البهجة والسرور، لكسر حدة المشاهد المؤلمة التي عاشها الشعب المصري والعربي تحت وطأة العنف والإرهاب الأسود طوال عام مضي من التحولات الدراماتيكية الرهيبة في شكل وملامح بقايا ما يسمي بثورات الربيع العربي. ومن خلال مشاهدتي الأولية أتوقع أن حربا ضروسا سنتنهي بنهاية رمضان، تاركة لنا أكثر من عشر مسلسلات - علي الأقل - تعيد بهاء الشاشة المصرية والعربية من جديد، كما يبدو لي من المنافسة المشتعلة في الأداء العذب - منذ الحلقة الأولي - في ظل بطولات لاتجنح نحو ترجيح كافة "النجم الأوحد" بقدر ما تعكس زخم البطولات الجماعية، والتي تبدو ظاهرة إيجابية واضحة جدا في غالبية المسلسلات علي اختلاف أجناسها الدرامية ( كوميدي فنتازي – أكشن بوليس – اجتماعي نفسي)، كما اتضح لي من خلال مشاهدتي للحلقات الأولي لعديد من المسلسلات مثل : ( ونوس – مأمون وشركاه – الميزان - الخروج – 7 أرواح - أفراح القبة - فوق مستوي الشبهات - شهادة ميلاد - القيصر - الخانكة - راس الغول – هي ودافنشي، وغيرها من أعمال أخري ماتزال محط أنظارنا حتي نهاية الموسم ). فعلي قدر ارتباط الغالبية العظمي من تلك الأعمال المذكورة باسم بطل رئيسي، إلا أن حلبة الأداء العذب شهدت منافسية حامية الوطيس بين أجيال مختلفة سواء أولئك الذين جسدوا أدوارا أولي، أو ثانية، أو حتي أدوارا ثانوية تصل في حدها الأدني لمستوي المشهد الواحد، إلا أننا شاهدنا تجسيدا دراميا رائعا وملحوظا، وأظن أن المتعة ماتزال قائمة حتي نهاية الحلقات، كما يبدو ملحوظا أيضا أن تقنيات التصوير والسنوغرافيا والإضاءة والديكور، علاوة علي المونتاج والإخراج جاءت علي درجة عالية من الدقة والبراعة في خلق نوع من الإثارة والفرجة التي نجحت - إلي حد ما - في تغطية بعض العيوب الطارئة علي سيناريوهات اتسمت في غالبها بالضعف والتكرار الممل أحيانا، لكن بفضل كل تلك العناصر مجتمعة تمكن التليفزيون من فرض نفسه بشعبيته علي جناح تلك التقنيات المتقدمة التي توافرت خلال العقدين الماضيين، حتي غدا التليفزيون أداة فاعلة لا يمكن للمثقفين تجاوزها، بل أصبح التليفزيون اليوم هو كتاب الجماهير، وشاشة التليفزيون البراقة التي تقدم الصورة الجميلة هي سينما البيت. ويبقي الأمر الجدير بالذكر في هذا الموسم الدرامي الحالي، أنه لدينا الآن كوكبة من النجوم المشهود لهم بالثقافة والخبرة والدراية بهموم المجتمع ، ومن ثم استطاعوا أن يلامسوا المشاعرالإنسانية الصادقة، ودون عناء تمكنوا من العزف علي أوتار القلب والعقل معا في سيمفونية رائعة وصولا إلي بواطن النفس البشرية الخفية تاركين فيها أكبر الأثر، من خلال أداء سلس وراق لنجوم أخص منهم: ( عادل إمام ، يحيي الفخراني، محمود عبد العزيز، يسرا، خالد زكي، أحمد فؤاد سليم، هالة صدقي، غادة عبد الرازق ، ليلي علوي، جمال سليمان، مني زكي، هشام سليم، خالد النبوي، طارق لطفي، بيومي فؤاد، يوسف الشريف، ياسر محمد علي، ناصر سيف، إياد نصار، باسل خياط)، وهؤلاء جميعا أظنهم - ومعي كثيرون – من نوعية أولئك الفنانين الذين يبحث عنهم جمهور يتعطش للفن الراقي في ظل أشواك وعثرات الدراما الحالية التي تكرس في غالبيتها لمناخ من الفوضي والعشوائية، لأنهم ببساطة امتلكوا روح الفنان صاحب الوعي الصادق بقضايا وطنه وأمته. [email protected] لمزيد من مقالات محمد حبوشة