ونحن في شهر القرآن .. ما هي مقاصد القرآن التي غابت عنا؟ القرآن له مقاصد عديدة: مقصد توحيد الله وعبادته، ومقصد الهداية الدينية والدنيوية، ومقصد التزكية وتعليم الحكمة،مقصد الرحمة والسعادة، مقصد إقامة الحق والعدل، تقويم الفكر. وما أحوجنا إلي العمل بقوله تعالي: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كذلك يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] (سورة آل عمران: 103) وقوله تعالى: [وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] (الأنفال:46). وقوله [وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]، (المائدة: 2). كيف نعيد قراءة السيرة النبوية في إطار واقع المسلمين المأزوم؟ سنة النبي أقوال وأفعال وتقريرات، رصدها العقل المسلم واستن بها وتشوف إلى الالتزام بهديها، وبالتأمل في سنته صلى الله عليه وسلم نجدها تنقسم إلى سنن هيئات وسنن مواقف، وسنن الهيئات تهتم بهديه في هيئته ولباسه ومأكله وآداب اللباس وقضاء الحاجة ودخول المسجد ...إلخ، لكن سنن المواقف هي تلك السنن التي تبرزها مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقف عديدة من حياته الشخصية والدعوية وفي إدارته للدولة وإدارته للأزمات والشدائد، وقيادته للجيوش في المعارك وقضائه ومعاملته مع المخالف...إلخ، وسنن المواقف هي التي ينبني عليها العمران وصناعة الإنسان، فنحن نتعلم من مواقف الرسول يوم فتح مكة العفو والتسامح والتراحم والتواضع، نأخذ منه الشفقة والرحمة على الأبناء من حزنه على ولده إبراهيم ولعبه مع الحسن والحسين رضي الله عنهما، نأخذ منه كيف كان في بيته في عمل أهله، بالإضافة لأخذه بالأسباب وعدم التواكل في مواقف عديدة وكذا التخطيط السليم المحكم كما حدث يوم الهجرة، وتعظيمه لحرمة النفس الإنسانية عندما وقف لجنازة يهودي وتأكيده على قيم العلم والعمل والإخلاص والصبر ....إلخ. هذه هي سنن المواقف التي يجب أن تبرز للأمة وأن ننشغل بها، لكن للأسف الشديد التف المسلمون حول سنن الهيئات وتركوا سنن المواقف والتي بها يعلو العمران، فوصل واقع المسلمين إلى ما وصلنا إليه، إياكم أن تظنوا أننا ننكر الاستنان بسنن النبي في هيئته وسلوكه على العكس نحن ندعو إليها ونحث على التشبث بها، لكننا ننكر أن نترك سنن مواقفه العظيمة لأن هذا يعد تضييعا لمسالك البناء الحضاري وفق الهدي المحمدي . ماذا يجب علينا كأمة الآن؟ يجب أن ننفصل عن الدوران في دائرة الآخر، وأن نتصل اتصالا عميقا بتراث أسلافنا من خلال الوقوف على مسالكهم لا مسائلهم، ثم نستكمل عطاءنا الحضاري كأسلافنا فنزاوج بين العلم والإيمان والعلم والعمل، فنحن في حاجة للانفصال والاتصال والاستكمال، اتصال يربط بين الماضي والمستقبل لأن من لا ماضي له لا مستقبل له، وحتى لا نكون لقطاء، (انفصال) يبرز شخصية الأمة وتميزها، و(استكمال) يجعلها تلحق بالركب الحضاري الإنساني حتى لا نكون عالة. تجديد الخطاب الديني من الأمور التي ترددت كثيرا في الآونة الأخيرة .. كيف نربط التجديد بإشكاليات الواقع.. وما هي مفاتيح التجديد من وجهة نظركم؟ يجب علينا إن أردنا تجديدا حقيقيا أن نقوم بعمل مداخل لذلك أولا، وهذه المداخل هي: (التنخيل) لما نقل إلينا من تراث الأمة، و(التعليل) لأن عقول الناس في هذا العصر منفتحة انفتاحا خطيرا على كل التيارات والأفكار فنحتاج للمزاوجة بين العقل والنقل في البلاغ وهذا ما يعرف بالجمع بين المعقول والمنقول، ثم يأتي مدخل (التنزيل) وهو مهم جدا في تأسيس القواعد التي تضبط تنزيل النص على الواقع تنزيلا صحيحا ورحيما ومحافظا على الثوابت ومدركا للمتغيرات ومحسنا للربط بينهما وتنزيل الحكم على نوازلها، ونحتاج إلى مدخل (التشغيل) بمعنى نحن في أمس الحاجة لإعادة تشغيل ماكينة العقل المسلم الذي يستطيع أن يولد العلوم وينفث في الأمة المعرفة والفنون، ومدخل (التكميل) وهو الذي يساهم في تكميل العطاء الإنساني للإسلام وأن نكمل عطاء أسلافنا بعطاء إنساني يبرز كمال وجلال هذا الدين في العالمين. أما مفاتيح التجديد فإنها تكمن في مفتتح آيات الوحي وخواتيم كلمات الرسالة، فلو نظرنا إلى أول ست آيات من سورة العلق وهي أوائل ما افتتح به الوحي القرآن الكريم إرسال السماء إلى الأرض، لوجدنا أنها أمرت بالقراءة مرتين، وذكرت القلم مرة، ومادة العلم مرتين، وكلمة الإنسان ثلاثة وهذا يبرز أن هذا الدين قبل أن يأمر بالعبادة والدعوة أمر بالعلم، وركز على أهمية القراءة ومحورية الإنسان، فلو انطلقنا من هذه المفاتيح وربطها بخواتيم الرسالة المتمثلة في حجة الوداع حيث تحريم الدماء والأعراض والأموال والربا والدعوة لتكريم المرأة ورعايتها إلى آخر القيم الرفيعة في هذه الخطبة، لاستطعنا أن نقدم نموذجا معرفيا عظيما للبشرية، ولكن الأمر يحتاج إلى آلية لتسويق هذه الفهم كمدخل لتصحيح صورة الإسلام في هذا الأمر. في القرون الأخيرة تخلف المسلمون عن غيرهم، وخرجوا من دائرة السباق الحضاري الإنساني..ما تعليقكم؟ ساهم في ذلك عدة عوامل، منها: عدم وجود بيئة حاضنة ومقدرة وراعية للعلم والعلماء، وغياب معيار الكفاءة في تحمل المسئولية، وانتشار الفقر والمرض والجهل، بالإضافة للصراعات السياسية والتي لَبست لباس المذهبية والطائفية، ولا ننسى أن هذا الخروج مكمنه الابتعاد عن الإسلام والارتماء في أحضان الآخر الذي يمعن في إذلالنا من ناحية ونفث اليأس في نفوسنا من ناحية أخرى، ومع ذلك فإننا من دعاة نشر ثقافة الأمل، ولذلك أقول بأننا في لحظة (توقف حضاري) يجب أن نعيد مكينة تشغيل الأمة إلى العمل فندخل في مرحلة (الاستئناف الحضاري).. ونعمل بجد وإخلاص حتى نصل إلى (الريادة الحضارية). ما هي مواطن الخلل في منهج التفكير لدينا الآن؟ وكيف يعاد ضخ الحياة في العقل الفقهي الإسلامي؟ مواطن الخلل تكمن في أمور عدة، منها: فقدان الثقة في الذات، الانقطاع بيننا وبين تراثنا، التبعية والتقليد للآخر، وعدم وجود المعيارية الضابطة والحاكمة للأمور العلمية والثقافية، بالإضافة للتسوية بين المختلفات والتفريق بين المتماثلات، وعدم العمق وتنظير الهامشي وليس التنظير العميق. وضخ الحياة في العقل الإسلامي يكون بتشغيل البوصلة الضابطة لحركة ربط النص بالواقع والشرع بالحياة ولن يتأتي ذلك إلا بتمكن هذا العقل من فهم النص الشرعي فهما صحيحا وإدراك الواقع إدراكا تاما، وامتلاك المهارات على تنزيل هذا النص على الواقع مع الحفاظ على مقاصد وكليات هذا الشرع الحكيم. كما أن هذا الأمر لن يتحقق إلا بالجمع بين المعرفة العقلية والمعرفة الشرعية، والجمع بين العلم بالإيمان واقتران العلم بالعمل مع إعادة علوم الأمة إلى تجليات العصر مع توليد علوم جديدة تبرز التميز الإسلامي. برأيك..ما هو الفقه الغائب عن أمتنا؟ الأمة يغيب عنها فقه السيادة والريادة، فنحن أمرنا بتعمير أخرانا بتعمير دنيانا، والمسلم صاحب يد عليا ومضماره هو التسابق من أجل البناء والأعمار، الأمة تحتاج لفقه «الائتلاف» والذي يؤسس للتعاون والتعايش المشترك والاعتصام لمواجهة التحديات المشتركة، وأن نصدر للناس أن الإسلام فقهه فقه حياة وإعمار وليس فقه موت ودمار، كما أن العقل الفقهي المسلم يحتاج أن يدرك فقه الواقع وفقه المآلات والموازنات والأولويات إن أردنا أن نخرج للأمة حلولا خلاقة لواقعها المأزوم.