ما إن انسحب آخر عامل من القاعة حاملا معه أجهزته ومثقابه الذي كان يضع به اللوحات الإرشادية علي الحائط ، وأطفأ الموظف الآخر أنوار القاعة الفسيحة وخرج وأغلق الباب وراءه حتي غرق المكان في ظلام شديد لا يبدده إلا شعاع ضعيف من النور يتسلل باستحياء من تحت الباب الضخم للقاعة .. وما أن تباعدت خطوات العاملين بالمكان حتي تلفتت إيزيس حولها فقد سمعت همساً ينادي باسمها فنظرت حولها لتجد " أرسينوي " الملكة البطلمية في زيها الرائع ذي الثنيات والكسرات الأنيقة تقف علي منصة بجوارها وتهمس : «إيزيس أين نحن ؟ وأين ذهب حابي أله النيل وأوزوريس وسيرابيس والإسكندر ؟ لا أراهم؟ فضحكت إيزيس ضحكتها الواثقة الرائقة وقالت " لا تخشي شيئاً يا أرسينوي .. نحن في المتحف البريطاني في لندن " . .................................................................. لندن .. وماذا نفعل هنا ؟ هل نحن هنا للقاء الملك أرثر أو أحدهم من ملوك الرومان ؟ ردت أرسينوي بفضول واستغراب .. فتعالت ضحكة إيزيس وهي تقول: “ لا يا أرسينوي ، نحن في مهمة رسمية ولسنا نلهو ، نحن في إطار معرض عن الأثار المصرية الغارقة للترويج لزيارة مصر وإعادة حركة السياحة إليها ، ولتعريف دول العالم بما تحويه بلادنا من كنوز أثرية وتاريخ عظيم “ ثم تلاشي صوت إيزيس وأشارت لأرسينوي لتصمت فقد اقترب صوت أقدام أحدهم من الباب الذي انفتح محدثاً صريراً مزعجاً ودخل أحد رجال الأمن للقاعة لتفقد المكان وما أن إطمأن أن كل شىء في مكانه حتي عاد أدراجه وأغلق الباب وراءه ، وهنا أشارت إيزيس لأرسينوي وقالت: “ إطمئني يا أرسينوي نحن بخير ، ومن مكاني هنا في ركن القاعة أستطيع رؤية بقية العظماء حابي والإسكندر وسيرابيس وحتي أوزوريس موجود .. فقط حاولي أن تحصلي علي قسط من الراحة فغداً يوم حافل “ وفي الصباح بدا كل شىء داخل المتحف البريطاني وكأنه يوم عرس ، فقد وصل الضيوف المصريون ( الملوك والملكات .. الآلهة والآلهات .. العجل أبيس والعجوز سيرابيس والإسكندر الشاب المقدوني وأوزوريس الملك الأسطوري وزوجته الجميلة إيزيس واستعدوا وأخذ الجميع مواقعهم وحانت اللحظة الحاسمة بوصول الدكتور خالد العناني وزير الآثار المصري علي رأس وفد من الأثريين للمشاركة في افتتاح أهم معرض تشهده العاصمة الإنجليزية هذا العام وهو بعنوان “المدن الغارقة ومدن مصر المفقودة " والذي وصل الي المتحف البريطاني في لندن بعد أن أنهي إقامته وعرضه في معهد العالم العربي بالعاصمة الفرنسية باريس ، ووسط إحتفال كبير تم إفتتاح المعرض الذي شهد إقبالاً كبيراً من السائحين منذ اللحظة الأولي لافتتاحه . ويقول خالد العناني إن المعرض يضم 293 قطعة أثرية تم اختيارها من عدد من المتاحف وهي متحف مكتبة الإسكندرية والمتحف اليوناني الروماني والمتحف البحري والمتحف القومي بالإسكندرية والمتحف المصري ، وأغلبها من القطع التي تم انتشالها من بحر الإسكندرية علي مدى سنوات طويلة، ومن المقرر أن يستمر ستة أشهر في المتحف البريطاني ثم ينتقل بعدها إلى متحف رايتبرج بمدينة زيوريخ السويسرية ليعود من جديد إلى مصر في 2017. وتقول الهام صلاح رئيسة قطاع المتاحف إن المعرض يسلط الضوء علي تراث مصر الغارق واثنتين من أهم المدن الأثرية، هما هيراكليون ومينوتس اللتين دمرتا بسبب زلزال مدمر اطاح بهما وترك بقاياهما في أعماق البحر بمنطقة أبو قير . واضافت أن المعرض يضم عددا من القطع الجميلة والتي لم تر النور إلا منذ أعوام قليلة حيث إنها كانت ترقد تحت سطح البحر و أهمها ثلاثة تماثيل ضخمة من الجرانيت الوردي لحابي إله النيل وملك وملكة بطلمية ويبلغ ارتفاعها أكثر من خمسة أمتار ونصف بالإضافة الي رأس لسيرابيس، والتى لها صورة شهيرة وهي ترقد بين شباك صياد ورأس الإسكندر من مقتنيات المتحف اليوناني و تمثال صغير من البرونز لأحد الفراعنة- عثر عليه في هيراكليون- بأبو قير – يبلغ ارتفاعه نحو 20 سم، منحوت بدقة عالية، ويعتقد أن يكون هذا التمثال لأحد ملوك الأسرة الثلاثين أو ربما هو الملك “بسماتيك الثاني” بالإضافة لتمثال من الجرانيت الأسود للالهة “تاوسرت” تظهر فيه على هيئة فرس النهر واقفة تستند على كفوف الأسد، وتميمة على هيئة عين حورس من العصر البطلمي من حفائر خليج أبو قير. ويقول الدكتور زاهي حواس وزير الآثار الأسبق أن معرض الآثار الغارقة في لندن والذي يستقبله المتحف العريق بكل حفاوة هو استمرار واستثمار لنجاح المعرض السابق الذي ضم بعض هذه القطع التي تم انتشالها من بحر الإسكندرية وطاف مدنا أوروبية عديدة منذ عام 2006 لكي يتمكن العالم من الاطلاع علي جزء أسطوري وتاريخي من حضارة مصر القديمة والقطع التي يضمها المعرض تم انتشالها من منطقة قصور ومعابد الميناء الشرقي الغارقة ومدينتي هيراكليون ومينوتس الغارقتين في أبو قير ومنها لوحة هيراكليون من البازلت الأسود يبلغ ارتفاعها نحو مترين وكانت تضم منشورا عن الضرائب والجمارك ومجموعة التماثيل الضخمة التي تضم تمثالين لملك وملكة بطلمية وتمثال حابي اله النيل من الحجر الوردي ويبلغ ارتفاعها6 أمتار ، والتى تم العثور عليها علي عمق10 أمتار مقسمة إلي أجزاء الرأس الجذع الأرجل بالاضافة إلي اللوحة الضخمة التي تبلغ مساحتها6 أمتار, طولا و4 أمتار عرضا من الجرانيت الوردي ومكتوبة بثلاث لغات هي الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية وتم تجميعها بالاضافة إلي مجموعة من تماثيل أبي الهول ورءوس الملوك والملكات البطالمة ومجموعة من الحلي والأواني البرونزية وجزء من ناووس لمعبد هرقل وتمثال أيزيس البازلت الأسود. وقد تمت الاستعانة بخبراء ترميم علي أعلي مستوي من المانياوفرنسا تحت اشراف ادارة الترميم المصرية لترميم التماثيل والقطع خاصة الضخمة منها حتي يمكن عرضها بطريقة آمنة. أما فرانك جوديو رئيس بعثة المعهد الأوروبي للآثار الغارقة والذي اكتشف هذه القطع فيقول إن القطع وصلت من فرنسا بسلام إلي المتحف الذي شهد أضخم عمليات إعداد وترميم ليكون لائقا بالآثار المصرية كما تم عمل سيناريو رائع للعرض ليكون الإله حابي في مدخل القاعة مستقبلاً الزوار ليبدأ معهم الجولة الأثرية .ويقول الدكتور والأثري محمد عبد المقصود ان بعثة المعهد الاوروبي للاثار البحرية بدأت بالتعاون مع المجلس الأعلي للآثار منذ عام1992 أولي خطوات التنقيب عن الآثار الغارقة بالاسكندرية, حيث أجرت المسح باستخدام تقنيات تكنولوجية حديثة لاعماق البحر للكشف عما يحتويه من كنوز أثرية, واستطاعت تحقيق انجاز علمي برسم خريطة طبوغرافية علمية دقيقة لمواقع الآثار الغارقة للميناء الشرقي, بالاضافة إلي القيام بابحاث تم خلالها تحقيق كشوف علمية مهمة مثل الكشف عن مجموعة تماثيل لأبي الهول بالعصر البطلمي, وتمثال لأحد الكهنة يحمل إناء كانوبيا, ومجموعة من الحلي والعملات الذهبية والفضية والبرونزية. ويضيف الدكتور زاهي حواس أن البعثة تقدمت حينها بطلب تمت الموافقة عليه لإقامة معرض لمكتشفاتها ل 498 قطعة في عدد من عواصم العالم بعنوان “ كنوز مصر الغارقة “ بدأ أولى جولاته في متحف جروبيوس باو بمدينة برلين الألمانية في مايو 2006 وإفتتحه الرئيس الأسبق حسني مبارك ونظيره الألماني هورست كوهلر ، وبعد النجاح الأسطوري للمعرض في برلين انتقل الي متحف القصر الكبير بالعاصمة الفرنسية باريس ثم الي مدينة بون الألمانية ثم مدينة مدريد الاسبانية وبعدها تورينو الايطالية حتي انتهي في طوكيو عاصمة اليابان . ومن طرائف المعرض كما يقول حواس إن الملك خوان كارلوس ملك اسبانيا وقرينته افتتحا المعرض وسط إنبهار كبير من الأسبان ولكن المثير أن المعرض كان قد أقيم في مبني سلخانة قديمة تستخدم كقاعة معارض ضخمة وفخمة في نفس الوقت ! وتحولت بفضل معرض الآثار الغارقة الي أشهر قاعة للعرض المتحفي في مدريد ، وبمجرد دخول الملكة صوفيا القاعة أبدت اعجابها بتمثال ايزيس التي ترتدي ثوبا شفافا وهو التمثال الذي كان يسكن متحف مكتبة الاسكندرية بعد انتشاله من البحر , وتمثال الكاهن الذي يحمل الآنية الكهنوتية والذي تم انتشاله من الميناء الشرقي عام2002 كما أعجبت الملكة بالحلي الذهبية القديمة. قال فرانك جوديو في تصريحات سابقة إن معرض الآثار الغارقة وصل عدد زواره في محطاته الأربع بون وبرلينوباريسومدريد إلي أكثر من مليوني زائر. أما عن معرض المتحف البريطاني فطريقة العرض بدت مختلفة فحابي هو من يستقبل الزوار وبعده تمثال أيزيس الجميلة التي تشعر أنها تنظر بشموخ وكبرياء لكل زائرات المعرض وكأنها تنقل رسالة أنها أجمل نساء العالم وأنه لا توجد من بين نساء العصر الحديث من تضاهيها جمالاً وتقف بجوارها الملكة أرسينوي وبعدها توجد قاعة معروض فيها إثنان من النواويس المقدسة يحرسهما العجل أبيس الذي ينظر الي سيرابيس وفي الواجهة التمثلان العملاقان لملك وملكة بطلمية ثم يتوالي العرض للقطع التي يضمها المعرض حتي ينتهي بتمثال الكاهن الذي يحمل الأنية الكانوبية وهو يودع الزائرين عند باب الخروج بعد رحلة أسطورية تمتع فيها السائح بجولة بين آثار مصر الغارقة بتذكرة لا يزيد ثمنها على 16 جنيه إسترليني أي ما يوازي 200 جنيه مصري .ويقول سير ريتشارد لامبرت مدير المتحف البريطاني أننا نشعر بسعادة غامرة لاستقبال أول وأكبر معرض للأثار الغارقة والذي يأتي بفضل التعاون الثقافي والآثري بين وزارة الآثار المصرية والمتحف ومعهد الآثار الغارقة. الجدير بالذكر أن المعرض ينقسم الي خمسة أقسام الأول يحكي قصة المدن التي تم إكتشافها تانيس ، هيراكليون وكانوب ثم العلاقة بين مصر القديمة واليونان من خلال الألهة والملوك والملكات ثم قسم لشرح أسطورة أوزوريس وبعدها علاقة مصر بروما ثم ملوك البطالمة وقصة الإسكندر. ويقول ناصر كامل سفير مصر في إنجلترا أن مصر لا تتطلع فقط الي الشراكة الاقتصادية والاستثمار مع إنجلترا ولكنها تطمح أيضاً الي التعاون في المجال الثقافي والأثري لخدمة الحضارة ولتقديم المزيد من الاكتشافات الأثرية التي ترقد تحت رمال مصر وفي بحورها أيضاً ، داعيا البريطانيين لزيارة المعرض ليكون دافعاً لهم لزيارة مصر ومشاهدة آثارها علي الطبيعة .وهكذا انتقلت إقامة إيزيس ورفقائها من الملوك البطالمة الي المتحف البريطاني لمدة 6 أشهر بعدها سوف تحزم أمتعتها وتحمل حقائبها وأسرارها وجواز سفرها المصري الملئ بالتأشيرات لتنتقل الي مدينة أخري وقصة أخري ورسالة سلام جديدة من مصر تقدمها للعالم .