يكتسب كل شعب علي مر العصور خصائص وسمات تميزه عن غيره من الشعوب وتحفظها ذاكرته التاريخية والسياسية, هذه الخصائص هي التي ترسم ملامح شخصيته, أو بتعبير آخر هي التي تشكل هويته والتي بفضلها يمكنه الاستمرار والوجود في العالم بوصفه ذا هوية متميزة وثابتة; فالهوية هي كون الشيء هو هو, أو كون الشيء نفسه أو ذاته, كما أنها تعني معرفة المواطن بأولوية انتمائه, وما يترتب علي ذلك من أولويات الانتماء والإحساس بالتكامل مع الشركاء والتمايز عن الغير. ولقد كشفت الأدبيات بوضوح كاف كيف أن هوية مشتركة مع الآخرين في الجماعة الاجتماعية نفسها يمكن أن تجعل حياة الجميع تسير بشكل أفضل, ولهذا ينظر إلي الشعور بالانتماء إلي جماعة إنسانية ما باعتباره أحد مصادر الثروة مثل رأس المال. وبالرغم من أن هناك هوية سائدة في كل مجتمع سياسي متكامل طبقا للحد الأدني للاتفاق بين أعضائه وترتيب الأولويات فإن هناك هويات كامنة لدي كل جماعة في المجتمع نتيجة لمتغيرات معينة تميزها عن غيرها من الجماعات مثل المتغير الديني أو الإقليمي أو العرقي أو اللغوي... ألخ. وظروف تطور المجتمع وصراعه مع المجتمعات الأخري هي التي تعزز أو تضعف هذه الهويات الكامنة. ومنذ ما يزيد علي ثلاثة آلاف وخمسمائة عام قبل الميلاد تمكن المصريون القدماء أن يكونوا مجتمعا سياسيا متكاملا وموحدا كما أقاموا حضارة من أقدم الحضارات التي عرفها التاريخ والتي امتدت لآلاف السنين. وكان للبلاد هويتها المستقلة وحدودها الإقليمية المميزة. وحتي عندما خضعت مصر للحكم الأجنبي في الفترة التي تلت انهيار إمبراطوريتها في العصور القديمة فقد ظلت تمثل مجتمعا منفصلا ومتمايزا عن المجتمعات التي خضعت لها. وعندما اشتركت مصر مع باقي أجزاء الإمبراطورية الرومانية في الديانة المسيحية فقد مصرت هذه الديانة وصاغت لنفسها مذهبا خاصا بها( الأرثوذكسي) ورفضت مذهب مستعمرها البيزنطي( الملكاني). ولكن عندما جاء الفتح العربي الإسلامي انخرطت مصر في الكيان العربي الإسلامي وأصبحت جزءا لا يتجزأ منه. وكان انتشار الإسلام هو العامل الأول في التوحيد الثقافي, لأن الإسلام ليس مجرد فروضا دينية وعبادات وإنما هو أيضا عادات وتقاليد وقواعد سلوك. فالدين الإسلامي هو طريقة حياة متكاملة. في الواقع, لقد كان هناك سياق تاريخي محرك لفكرة الهوية الإسلامية في مصر, تمثل هذا السياق أولا في سقوط الخلافة العثمانية في3 مارس سنة1924, بعد أن عانت طويلا من الضعف والتفكك, وكان معني هذا أن المنحي الإسلامي قد هبط بشدة بعد أن فقدت الأمة آخر أشكال الوحدة, وكان لهذا الأمر أثره الكبير علي المسلمين كميا ونوعيا, فكانت معظم أفكار العالم الإسلامي قد باتت مجزأة; وتتعرض لعملية اختراق سياسي واقتصادي وثقافي تستهدف القضاء علي ثوابت الإسلام وملامح الحضارة الإسلامية. ووصل الأمر إلي حد أن الأمور المعلومة عن الإسلام بالضرورة كالخلافة والجهاد أصبحت بدورها هدفا لحملات التشكيك. وكان المحرك الثاني لفكرة الهوية الإسلامية في مصر, هو الاحتلال الفرنسي لها, فعندما بدأ الضعف يتسرب إلي الدول العثمانية ويدب في أوصالها, أخذت فرنسا تتطلع إلي المشرق العربي, وكانت التقارير تحرضهم بأن اللحظة المناسبة قد حانت ولا بد من انتهازها. وفي إطار الصراع المستمر بين الحضارة الإسلامية والحضارة الأوروبية تعرضت مصر للغزو الفرنسي; حيث وصلت الحملة الفرنسية إلي الإسكندرية ونجحت في احتلال المدينة في2 يوليو1798 م بعد مقاومة من جانب أهلها. ولكن كانت البنية السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في مصر في ذلك الوقت تسمح بالمقاومة, فلم يكن التغريب قد فعل فعله في مصر, وبالتالي كان الشعب يقاوم تلك الحملة ببساطة وإيجابية, وكان هناك علاقة صحية بين علماء الأزهر وبين الجماهير, فقام العلماء بدور التحريض وقيادة الثورة, وهذا شرط لازم لنجاح أي مقاومة لأن الأمة لا تتحرك إلا من خلال وجدانها الديني وبقيادة علمائها الشرفاء وبالفعل نجحت المقاومة الشعبية في هزيمة الفرنسيين ورحيلهم عن مصر سنة.1801 أما ثالث محرك لفكرة الهوية الإسلامية في مصر, فهو الاحتلال الإنجليزي, إذ أثار تزايد الغزو الحضاري والنشاط الاستعماري الأوروبي, المشاعر الدينية في مصر, وبدخول بريطانيا مصر عام1882 وفرض حمايتها عليها, زاد الخطر الغربي علي الهوية الإسلامية, ليحتل المنزلة الأولي بالقياس للتحديات الداخلية من تخلف وسوء إدارة. في الواقع, فقد بدأت بداية أزمة الهوية في مصر مع الاحتلال الإنجليزي لها, ففي ظل ذلك الاحتلال أصبح ممكنا الحديث عن هويات أخري غير الهوية الإسلامية; حيث بدأ تشجيع الفكر المعادي للاتجاه الإسلامي, مما أدي إلي أزمة هوية ودفع المسلمين للدفاع عن هويتهم الإسلامية. فلقد قام البعض بمعارضة الاتجاه الإسلامي, والهجوم السافر غير اللائق عليه, بل لقد ظهرت صحف, وأحزاب لتهاجم الفكرة الإسلامية صراحة. ويمكن القول, أولا إنه في البداية شغلت قضية الانحطاط الداخلي عقول المفكرين دوما أما الآن( بعد الاحتلال الأوروبي) فقد اقترنت بها قضية جديدة, هي قضية البقاء المطروحة علي الشكل الآتي: كيف يمكن للدول الإسلامية مقاومة الخطر الخارجي الجديد؟. ذلك الخطر الذي تمثل في مناهضة الاستعمار, للمحافظة علي الوجود والتأكيد علي الهوية. في حقيقة الأمر, إن كل التيارات الإسلامية منذ القرن التاسع عشر مرورا بالقرن العشرين ووصولا إلي القرن الواحد والعشرين يرون أن هوية مصر إسلامية; إذ أن الإسلام علي حد قول أ. محمد عمارة منذ أن تدينت به أغلبية هذه الأمة قد أصبح هو الهوية الممثلة لأصالة ثقافة هذه الأمة. كما أن هوية مصر الإسلامية ثابتة في دستورها وفي تصرفات شعبها المؤمن بالإسلام كدين وعقيدة يدين بها أغلبية الشعب المصري وكحضارة وثقافة يعيش في إطارها كافة الشعب سواء مسلمين أو غير مسلمين. ولم يقم مؤسس الليبرالية المصرية وعلمانييها الكبار أمثال أحمد لطفي السيد وعبد العزيز فهمي أو سعد زغلول ليقولوا يجب علينا كدولة مدنية أن نلغي النص في الدستور علي هوية الدولة المصرية وهي أنها دولة مسلمة, أي أن أغلبية سكانها يدينون بالإسلام, بل الواقع يشير إلي أن الجماعة الوطنية المصرية قد قامت وتأسست علي أساس الاعتراف بهوية أغلبيتها كهوية للدولة المصرية, فالدولة لا تعمل في فراغ أو فضاء وإنما هي مؤسسة معنوية تعبر عن أغلبية مواطنيها, وفي نفس الوقت احترام حق الأقلية في أن تعبر بحرية عن معتقداتها الدينية, فليس جامع الوطنية المصرية بديلا عن الإسلام. فلم تعرف مصر اضطهادا للمخالفين لعقيدتها, ومن ثم ظل غير المسلمين موجودين لهم كافة الحقوق. إذن, فهوية مصر' تستوعب البعد الإسلامي وتتجاوزه, وهذا يعبر عن قيم ومفاهيم الإسلام الصحيحة والسليمة والأمثلة علي ذلك كثيرة في التاريخ فالإمبراطور صلاح الدين الذي حارب ببسالة من أجل الإسلام في اثناء الحملات الصليبية في القرن الثاني عشر, خصص مكانة محترمة في بلاطه الملكي المصري, من دون أن يكون هناك أي تناقض, لموسي بن ميمون, ذلك الفيلسوف اليهودي المتميز الذي هرب من الظلم وعدم التسامح في أوروبا. وعلي هذا, فلابد من الاعتراف بأن هوية مصر الإسلامية هي واحدة من الهويات المهمة وربما أيضا الحاسمة, ولكن من دون أن يعني ذلك إنكار أن هناك هويات أخري مهمة أيضا.