أشهروأغلي كناسة بضم الكاف في المحلات هي كناسة ورش الصاغة وتصنيع المشغولات الذهبية ففي أثناء العمل يحدث كثيرا تطاير ذرات أو قطع صغيرة جدا من الذهب, ولهذا تقوم الورش بفرش أرضياتها بنوع خاص تتعلق به النفايات الطائرة وفي نهاية اليوم يقوم متخصصون بجمع كناسة الورشة وإجراء عدة عمليات فنية عليها لإستخراج الذهب المتطاير وتحويله إلي قطعة تبدو صغيرة ولكن في سوق بلغ فيه سعر جرام الذهب عيار18 أكثر من مائتي جنيه فكل ذرة تساوي مبلغا. وقد لا تعرف أن أجهزة المخابرات والأمن ترصد كناسة البيوت التي بها سكان معينيين للحصول علي معلومة من كناسة الشخص الذي يرصدونه, وقد عرفت صحفيا رحمه الله كان يعطي ساعي أحد الوزراء مرتبا شهريا ليحتفظ له بمحتويات سلة زبالة السيد الوزير بما فيها من أوراق مقطوعة كان يستخرج منها أخبارا كثيرة إلي ان ظهرت مفارم الورق وحرمت الصحفي من أهم مصادره! ومناسبة هذه المقدمة الحديث عن الكتاب الأخير للكاتب الصحفي محمد العزبي الذي أطلق عليه عنوان كناسة الصحف سواء لأنه يضم بعض مقالات قديمة كتبها في مشواره الصحفي الذي تجاوز خمسين عاما أو مقالات أخري كتبها غيره وداخ من حفظها سنوات طويلة فاراد أن يوفر مساحة تخزينها وضمها في الكتاب لأنها بالفعل تساوي كتاب وأغنية وصديق وسكة سفر هناك نثر تقرأه فتشعر أنك تقرأ شعرا, وهناك شعر تقرأه فتشعر أنك تقرأ مقالا بايخا. واسلوب الكاتب الصحفي محمد العزبي الذي يصافح القاريء بعموده اليومي من غير ليه في صحيفة الجمهورية من النوع الأول. هل تريد أن تجرب ؟ تعال نقرأ سطورا من مقدمة كتابه التي يبدأها بقوله:. كتاب وأغنية وصديق وسكة سفر. أمورأعشقها وأهواها. كان كتابي الأول ألف ليلة, قرأته ألف مرة. وأغنيتي الأولي سبع سواقي, سمعتها سبعين مرة. أما الصديق فقد مات, ولم يعد لي صديق إلا أنني مازلت أنتظر. سافرت كثيرا وقليلا ومازلت أخشي السفر. ذهبت مرة في رحلة طولها بضع ساعات, ونسيت نفسي مرة فبقيت شهورا وبضعة أيام. سهرات طويلة مضت, وذكريات لا تنتهي. سهرة علي ضفاف البوسفور جائعا, أيام في قلب باريس مفلسا. ليالي حالمة في فينيسيا العائمة.. هكذا أحببت الرحيل وإحتضنت جواز السفر رغم أننا كنا نخرج بالعافية بعد الإذن والتحريات.... وأنا اليوم في حالة سفر علي الورق. أفسدتني السياسة وأمتعتني السياحة, فأحلي مافي الدنيا أن تعيش وسط الناس, وأن تقوم بدور الخواجة يأخذونه من يده ويرونه أغرب ماعندهم. كاد يأكلني أسد في غابات أفريقيا, أو هكذا تصورت. وكادت تسقط بي الطائرة مرة في سماء أمريكا, أو هكذا بدا لي وجه المضيفة. ومثل البشر هناك بلاد تنعشك وتهيم بها, وبلاد تلفظك وتفر منها. ولقد احببت مدنا كرهها كثيرون, واحسست بالأمان في بلاد يسودها الخوف. ( شفت الحلاوة) ومن المقدمة إلي المتن أي إلي محتوي الكتاب.. وما يحكيه محمد العزبي في رحلاته الأولي من تسكع وخوف من ركوب التاكسي حرصا علي الفلوس, وفنادق بالغة الرخص ندفع أجر البيات فيها مقدما, والأكل في مطاعم العامة, وحجز موزة علي العشاء وغيره من مختلف صور العناء والخوف من تبخر الفلوس المحدودة كل هذا وغيره جربه محمد العزبي وجربته أنا وجربه آخرون ذهبوا مع نداهة السفر والفرجة علي العالم في باريس ولندن وموسكو وإرتضوا دعوات الدول الشرقية الفقيرة, فإياك أن تتصور أننا عرفنا الفنادق والمطاعم والتاكسيات من أول أو رابع أو خامس رحلة بل إحتاج الأمر أن نجرب المر أولا! وقد كانت مصادفة أن تكون أول رحلات العزبي إلي الشرق هي كوريا الشمالية أيام رئيسها الإله كيم يل سونج, وهي أيضا أول رحلة قمت بها إلي الشرق. هو قام بها في1965 وانا قمت بها في العام التالي مباشرة1966. والغريب أن ماكنت أفكر فيه وقتها من إستخدام الرحلة إلي كوريا بابا لدخول الصين بعالمها المسحور وكان من حظي وقتها أن عشت الثورة الثقافية.. هذا التفكير نفسه فعله محمد العزبي, لكنه كما يحكي زار بعد ذلك فيتنام الشمالية وكان القصف الأمريكي علي أشده, أما انا فقد زرت فيتنام الموحدة قبل أربع سنوات عام2008 وشاهدت كيف تصعد دولة دمرتها الحرب درجات التقدم وتنتقل من ركوب الدراجات إلي الموتوسيكلات إلي السيارات رحلة إلي المعتقل لكن أدق الرحلات التي قام بها العزبي وكتب تفاصيلها كانت رحلته إلي المعتقل وأظنها الرحلة الوحيدة التي قام بها ولم أقتف أثره, ربما لأن مشواري في الصحافة إستمر طويلا مع الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل الذي إلي حد كبير كان حاميا وموجها. إحتاج الأمر أن يبدا العزبي الرحلة من قريته مركز المنزلة محافظة الدقهلية ويحكي عن والده أستاذ كلية أصول الدين الذي مات ومحمد في السادسة, وعمارة الطبلاوي علي ناصية شارع محمد علي التي سكنها وتفاصيل أخري كان لا بد أن يمضي معها وصولا كما يقول محمد إلي الليلة السوداء عندما إستيقظت علي كابوس. هرج ومرج في غرفة نومي, ووجوه كئيبة تدعي الهدوء, وتعال معنا خمس دقائق وهي العبارة التي كانت من أدبيات الذين أطلق عليهم زوار الفجر. فالخمس دقائق كانت أحيانا تمتد خمس سنوات... فتشوا البيت ولا أذكر أنهم وجدوا شيئا يستحق أن يتوقفوا عنده, ومع ذلك فقد اخذوا بعض الكتب والأوراق. فالثقافة هي ألد أعدائهم, والتلبس بالقراءة والمعرفة هو مايثير شكوكهم. ولم أعرف أن عددا كبيرا من الذين كتب علي أن أشاركهم الإقامة في عنبر واحد بمعتقل مزرعة طرة شهورا وأياما وساعات لهم علاقة بالفن والأدب: عبد الرحمن الأبنودي, وسيد حجاب, وصلاح عيسي, وجلال السيد, وصبري حافظ, ورؤوف نطمي, وعادل أمين, وعلي الشوباشي, وجمال الغيطاني, وإبراهيم فتحي. في مزرعة طرة سجن مزرعة طرة قديم ولكن شهرته شاعت عندما تحول سجن طرة إلي جمهورية طرة التي ضمت قادة الحكم والمسؤلية في سنوات مبارك الأخيرة.. ولكن قبل ذلك كان لطرة تاريخ متواصل يحكي عنه محمد العزبي عندما إنتهت رحلة التنقل إلي هناك.. إلي مزرعة طرة وكل واحد يسأل نفسه لماذا نحن هنا ؟ ولا يوجد جواب مقنع. وهذا هو فن إرهاب الدولة أن تأخذك وتجول بك بين الأقسام وتلتقي بناس وضباط وشخصيات لا تعرفها وكل ذلك وأنت لا تعرف ماهي تهمتك فهذا ليس من حقك! وأعود للعزبي الحائر وهو يقول نحن أولا لا حول لنا ولا قوة, وثانيا بعضنا بينه وبين الحكومة عمار, وكلنا علي ذمة الإشتراكية بل أعضاء متميزون في منظمة الشباب التي كان يرأسها الدكتور حسين كامل بهاء الدين الذي أصبح وزيرا للتعليم ولكن في سنوات حكم مبارك... وحاولت أن اعرف لماذا أنا هنا, ولم أجد جوابا سوي كلمات مبهمة عن عقاب أستحقه لأنني كتبت اليوميات لأول مرة في جريدة الجمهورية بإختيار رئيس تحريرها ورئيس مجلس إدارتها الجديد حلمي سلام القادم من دار الهلال.. وقد عوقبت بسبب اليوميات وإحتج يوسف إدريس لأن المسألة بذلك عيلت وعرفت بعد ذلك قصصا عن معتقلين سبقونا بأيام هكذا يحكي محمد العزبي وعن حارس لم يكن يروق له إذا دخل عنبر المعتقلين الشيوعيين عام59 الذي طال خمس سنوات عجاف إلا أن ينادي بأعلي صوته: قوم يا جاهل منك له. ولم يكن يوجه كلماته إلا لإثنين من أكثر المصريين علما وثقافة هما الدكتور لويس عوض أستاذ الأدب الإنجليزي والدكتور عبد العظيم أنيس أستاذ الرياضيات في كلية الهندسة. وكما تري فقد إنتهت المساحة بأكثر مما تتسع, ولم أتناول من الكتاب الممتع إلا صفحات قليلة من نحو300 صفحة أغلي من كناسة الصاغة وورش الذهب! [email protected] المزيد من أعمدة صلاح منتصر