رغم أن كلمة "كناسة" ذات دلالات سلبية يأنف منها الناس إلا أن الاستخدام الرشيق لها واضافتها إلي "الصحف" جعل لها لونا ورائحة مغايرة تماما.. وأعطي لها أكثر من بعد وأكثر من مغزي.. وهذه صنعة المبدع الحقيقي الموهوب الذي يغير ويبدل في دلالات المفردات فيحولها إلي جواهر بعد أن كانت مجرد بقايا أشياء. و "كناسة الصحف" هو عنوان الكتاب الذي صدر مؤخرا لكاتبنا الكبير الأستاذ محمد العزبي الذي يعرفه القراء جيداً من خلال مقاله اليومي "من غير ليه" علي الصفحة الأخيرة بجريدة "الجمهورية" ويعالج فيه كافة القضايا السياسية والفكرية والثقافية المثارة بحس وطني وضمير يقظ وقلم عفيف نظيف. وتمثل ممقالاته هذه رؤية متكاملة وناضجة للعلل التي نعاني منها.. وتكبل حركتنا عن الانطلاق إلي الأمام.. لذلك فقد أحسن صنعا عندما جمعها في كتاب وقدمها لقرائه وجبة متنوعة مفيدة.. فيها ما كان وما هو كائن وما سيكون.. وفيها أيضا خلاصة تجاربه وأسفاره.. واختار أن يضع ذلك كله في تواضع جم تحت عنوان "كناسة الصحف" مقتديا بأديبنا الكبير يحيي حقي الذي اختار هو الآخر أن يضع خلاصة تجربة حياته في كتاب "كناسة الدكان". شغلتني تقلبات السياسة اليومية بعض الشيء عن أن أعطر قلمي بتناول الكتاب وكاتبه.. وقد سبقني إلي هذا الفضل زلملاء كرام.. لكن الكتاب ظل علي مكتبي يغازلني ويشاغبني حتي واتتني الفرصة وفتحت صفحته الأولي فلم أدعه من يدي إلا بعد أن وصلت إلي صفحته الأخيرة.. وهذا سر الصنعة التي يحتفظ الأستاذ القدير محمد العزبي بها لنفسه.. فهو يجذبك ويدهشك ويأخذك إلي عوالم السحر والجمال.. يحكي لك.. ويوخز ضميرك.. ويذكرك بما نسيت.. ويهمس إليك ويصرخ فيك.. لكنه في كل الأحوال يحتفظ بك معه صديقاً.. تشعر بصدقه وإخلاصه.. وحماسة الشباب فيه.. فلا تلقي بالاً للوقت ولا يعتريك الملل. والأستاذ محمد العزبي مدافع أصيل عن حرية الانسان في كل ما يكتب.. إن كتب عن سنوات الحب والسجن يدافع عن الحرية.. وإن كتب عن الرحلات والأسفار يدافع عن الحرية.. وإن كتب عن تجاربه في الصحافة وعن الأشخاص الذين عرفهم طوال مشواره يدافع أيضا عن الحرية.. يعري أعداءها ويمتدح محبيها. وعندما يضيق عليه الطريق يلجأ إلي الكتابة الساخرة الساحرة.. ويظل يلح بها حتي تصل رسالته ويحقق هدفه.. ورغم أنه يدعي أن السياسة أفسدته بينما أمتعته السياحة إلا أن المتابع لما يكتب لا يمكن أن يفصل كلمة واحدة صدرت منه عن المغزي السياسي والرسالة السياسية. عندما يكتب مثلا عن السياحة وشغفه بالسفر يقول عن تجربة الخروج من مصر في عصر عبدالناصر: "كنا نخرج بالعافية بعد الإذن والتحريات.. وكانوا يمنعوننا من السفر عقابا ومن باب العند.. أو لأن مزاجهم غير معتدل.. والمسموح به خمسة جنيهات تضيع قبل مغادرة المطار.. ولقد فكر كثيرون ألا يعودوا.. ولم يعودوا.. فالوطن لم يعد للجميع". وفي موضع آخر في حديثه عن السفر يقول: "يبدو أن نجمي يتجه شرقاً.. ففي كل مرة أنوي السفر الي بلاد الفرنجة في الغرب أجدني في طائرة تتجه الي آسيا في الشرق.. ولست أشكو من ذلك لكنني أندهش". هذا كلام ليس بعيداً عن السياسة وإنما هو السياسة ذاتها.. بشحمها ولحمها.. وبمثل هذه اللغة المعبأة بالدلالات والمعاني تتسرب إلينا رسالة الأستاذ العزبي حين يكتب عن السياحة فيكتب بقصد ووعي كاملين عن السياسة.. ولا يملك هو شخصيا أن ينفك من هذه الرسالة التي تلازمه والتي دفع ثمنها مبكرا عندما اعتقل مع مجموعة من المثقفين في زمن عبدالناصر دون تهمة حقيقية. لقد نذر هذا الكاتب الرقيق الودود قلمه للدفاع عن حرية الانسان وكرامته في مواجهة القمع والاستبداد بكل أشكاله.. وظل زمناً طويلا يحلم ويتساءل: "ألا يأتي علي هذا الوطن يوم نجد أمامنا خياراً رابعا غير الموت أو الهجرة أو الزنازين؟ !.. ثم ينبئنا برؤيته للانسان "ذلك الكائن الغريب الذي إذا أهين مات وإذا أعطي فرصة أبدع". ويخفي الأستاذ العزبي وراء الطيبة البادية علي وجهه قوة روحية شرسة في محاربة الفساد والفاسدين أيا كانت مواقعهم التي يتحصنون بها.. وفي محاربة الاستبداد والقمع باسم الدين الذي يمارسه من يتلذذون بإطلاق الفتاوي الغريبة للتخوين والتكفير ومصادرة الحقوق والحريات وتقسيم الوطن علي أسس طائفية. بعد أن انتهيت من قراءة الكتاب قلت: لا حرمنا الله من قلمك يا أستاذ العزبي.. فقد نبهتنا إلي أن أروع ما في الصحف غالبا ما يكون في كناسة الصحف.