طرح الرئيس الأمريكي «إبراهام لينكولن» الذي اغتيل عام 1865، تحذيرًا بقوله: «سيأتي عصر من الفساد في المراكز العليا، ستبذل قوى المال قصارى جهدها لتمد أجله وأجل سيادة سلطتها، وذلك من خلال العمل على الإجحاف بالآخرين، وتقويض مصالحهم وحقوقهم... حتى ينتهي الأمر إلى تركز كل الثروة في أيدي (قلة) قليلة من النافذين ... وبذلك يتحقق دمار الجمهورية». ولأن الدمار يعني أن يصبح المجتمع الأمريكي في درجة الصفر ديمقراطيًا؛ لذا أشار التحذير إلى الحرص على الرهان الأكبر المرتبط بحماية مفهوم الديمقراطية وقيمها وأسسها المركزية مكتملة، ومتطابقة مع واقع الولاياتالمتحدة، ومنسجمة مع دلالته، إذ يمكن تحت ستار أعلى مراحل الخداع والتواطؤ أن تصبح تلك القلة «قوى الظل» التي تسعى إلى تنفيذ أجندتها بمدارها الخاص، بديلاً عن الشعب الذي يعد القاعدة الحيوية للنظام الديمقراطي؛ عندئذ يغيب مفهوم العدالة، ويحرم الإنسان الضعيف من أي حق، إذ تغدو «أجندة القلة» استثمارًا مضادًا للديمقراطية، متملصًا من كل تبعات حقوقها وقيمها؛ بل تزايد «القلة» في طرح شعارات غير مسئولة لتمجيد الديمقراطية بصورة مجردة، معتصمة بالشخصيات التي تدين بمناصبها إليها، انطلاقًا من سيطرتها على العملية الانتخابية، بإغداقها الدعم المالي اللازم لحملات مرشحين محددين، وأيضًا ممارسة توجيه الرأي العام لصالح مرشح بعينه. صدر في نوفمبر عام 2011 كتاب -حدائق الديمقراطية- قصة أمريكية جديدة عن المواطنة والاقتصاد ودور الحكومةس كتبه كل من ( إيريك ليو- نيك هاناوير). صحيح أن الكتاب يمثل الاعتراضات المتنوعة الدائمة الحضور، ضد سلطات الإدارة الأمريكية، استهدافًا لتحرير الديمقراطية حتى لا تفقد معنى اتجاهها في متاهات تطويعها لأغراض تعاكس أهدافها، ولعل من أكبر متاهات التطويع والاختلال، أن الفساد المتسلل إلى نظام تمويل الحملات الانتخابية دون سقف محدد، قد أعده الحكم القضائي مسلكًا قانونيًا، في حين اعتبره المؤلفان ومعظم الأمريكيين أمرًا فاضحًا؛ بل أحد أوجه الفساد، لأنه يجعل من الأموال خطابًا لشراء عامة الناس، كما يساعد جماعات الضغط على صياغة القانون، في حين أن الرأسمالية معنية بتوليد المنافسة الواسعة النطاق والممكنة، والمتمفصلة مع الحرية حتى يحصل الجميع على أفضل النتائج المثمرة، لكن الأشد لفتًا للنظر أن أزمة الدخل وتركيز الثروة لدى قلة، يشكلان أكبر التهديدات خطورة التي تواجهها الولاياتالمتحدة؛ إذ فيض الاقتدار المالي للقلة يسمح لها باستخدام صلاحيتها في نحت سياسات تزيد تركيز الثروة أكثر، ضد رغبة الطبقتين الوسطى والدنيا ومصلحتهما، ومن هذه المتفاوتات وغيرها يقر المؤلفان أنه يتبدى واضحًا أن الحكومة قد تم شراؤها ودفع ثمنها. ترى هل يعني ذلك أن ثمة عجزًا عن تنمية الديمقراطية الفردية والجماعية؟ هل يمكن لحكم القلة الثرية أن يتحول إلى صيغة الديكتاتورية المالية؟ أجرى المؤلفان مسحًا لمسارات الخريطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لمجتمع الديمقراطية الأمريكية، بوصفها مؤسسات حاملة لمفاهيم وقيم وتصورات، استهدافًا لتحديد المفهوم، والزمن، والخطاب، بحثًا عن واقع تجلياتها في ثلاث علاقات متشابكة راهنة هي: المواطنة، والاقتصاد، ودور الحكومة، انطلاقًا من أن التحدي الأكبر لهذا العصر يكمن في إعادة التفكير في كيف أن المواطنين هم صناع التغيير، وكيف يعمل الاقتصاد، وما الهدف من وجود حكومة، حيث رهان إجابة المساءلة عما تعنيه الجدارة في هذا العصر، يتبدى في القدرة على تغيير ما تراه، حتى يمكن تحسين القدرات على التكييف وتطويرها، إذ ثمة أسئلة يمكن الإجابة عنها اليوم بشكل أفضل مما كان عليه الأمر منذ نصف قرن، وذلك ما يفرض استدراكًا يتبنى عدم الالتصاق المشبع بالماضي؛ بل شحذ قدرات الخيال والتواصل مع مستجدات المعارف، استحقاقًا لوسائل جديدة لإدراك الأشياء، تدعيمًا لقدرات التكييف والتحول في ظل الظروف المتغيرة؛ إذ العالم يظهر اليوم داخل نظام عناصر مترابطة ومتشابكة وليست منفصلة، ويعمل البشر ككيانات إنسانية داخل ذلك النظام بشكل متبادل، كمقربين عاطفيين، وليس كآلات. أعلن المؤلفان رفضهما للتفكير الآلي وقولبة الفكر، وطرحا أسلوبًا جديدًا من الخيال العام يسمى «عقل الحديقة» يتضاد مع «عقل الآلة» ولأن العقل ينمو على ما يتغذى عليه؛ لذا فإن عقل كل إنسان أشبه ما يكون بحديقته الخاصة، التي تتطلب الرعاية المتواصلة، والرقابة المتجددة، تحقيقًا لجدارتها العملية، وصلاحيتها الفعلية، غرسًا لبذور الخير والحق، إنتاجًا للمساواة والمحبة، بمداومة تنقيتها من العابر والعارض، وكل ما هو غير إيجابي من أفكار سلبية، اعتصامًا بالانتباه المستمر، درءًا لتحكمها غير المتمهل بالوقوع في شباك شرورها، والفاصل الحدي بين مصطلح «عقل الآلة» و«عقل الحديقة» يتجلى في اختلاف نظرة كل منهما إلى العالم والديمقراطية؛ إذ ينظر «عقل الآلة» إليهما بوصفهما سلسلة من الأدوات وآلات لحركة أبدية، وتوازنات تواجهها أخرى مضادة، وأيضًا يستوجب «عقل الآلة» النظر إلى الاقتصاد بافتراض تمام فعاليته، وعدم افتقاده آلية تصحيح نفسه تلقائيًا، كما يفترض «عقل الآلة» كذلك الاستقرار، والتنبؤ، ويقر أيضًا بالحاجة إلى التصحيح التدريجي، في حين ينظر «عقل الحديقة» إلى العالم والديمقراطية على أنهما مجموعة محكمة التواصل من الأنظمة البيئية والاجتماعية، تتبدى في مصادر ثقة، ورأس مال اجتماعي، ونسج من النمو الاقتصادي، وشبكات عدوى السلوك، كما يقود «عقل الحديقة» إلى قناعة أن الاقتصاد من صنع الإنسان، ورهان فعاليته يتبدى في إحكام اكتمال بنائه، وتوالي دقة الرعاية والاعتناء به، صحيح أن «عقل الحديقة» يفترض عدم الاستقرار ويرفض التنبؤ، لكن الصحيح كذلك أنه على التوازي يتطلب تنظيم الخضوع إلى متواليات مستمرة من أنظمة متغيرة، بدءًا من نثر البذور، مرورًا بتغذيتها وتعشيبها، وشحذ مسئولية استكشاف انعطافات الطبيعة، ومواجهتها برعاية النمو الجيد واستبعاد السيئ، يمارس «عقل الآلة» جمع أصوات الناس بآلات سياسية، واستغلال المستهلكين بآلات تسويق، وأيضًا إدخال المستخدمين في آليات صناعية، إنها حالة العقل الجامدة المؤسسة على السيطرة والثبات، وتتجسد في معظم المؤسسات الأمريكية ابتداءً من المدارس، وأيضًا يسمح «عقل الآلة» بعقلنة الأنانية في أصغر درجاتها، ويتجاهل بل يقبل تردي الفقر والاحتياج والجهل، ويغدو التغيير لديه انحرافًا خطيرًا وغير ضروري، في حين يتعامل «عقل الحديقة» مع التغيير بوصفه مبدءًا ضروريًا مشحونًا بالفرص. يؤكد المؤلفان أن الفهم الجديد عن العالم يقوض اليوم الفردية المفرطة والحساسة لدى اليمين، والجمود المرتد على نفسه لدى اليسار، ويستشهد المؤلفان بالكلمات المنقوشة على النصب التذكاري للرئيس الأمريكي «توماس جيفرسون» (1743/1826): «لست من دعاة التغيير المستمر في القوانين والدساتير، لكنها يجب أن تتماشى مع تقدم العقل البشري، إذ يتم اكتشاف حقائق جديدة تتغير معها الآراء والسلوك البشري، ومع تغير الظروف يجب أن تتقدم المؤسسات لمجاراة العصر. هل في ظل سيطرة القلة واعتقالها القيم الديمقراطية، يمكن أن تورق حدائق الديمقراطية الأمريكية وتزدهر؟. لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى