خلال شهر مايو2016 تكثفت الجهود لاستهداف مصر باستحضار الثنائيات الملوثة التي تبحث عن اكتساب شرعية مدعاة علي حساب الأخري. في هذا الشهر وحده أطلق داعش أكبر حملة إعلامية في تاريخه بهدف التجنيد والدعم المعنوي بما يزيد علي14 شريط فيديو يتناول ملف سيناء وأهداف التنظيم في مصر وكيفية تحقيقها, ولعبت الأشرطة كلها علي وتر الثنائيات البديلة ليخلق داعش لنفسه وهجا وسط إخفاقات الإخوان, وبطولة وهمية مسوغها مواجهة إيران والشيعة. في هذا الشهر يرفض بعض علماء الأزهر الشريف مساعي فردية تحت عنوان التقريب بين المذاهب, ويزعم السلفيون ذرا للرماد في العيون أنهم يسهمون في مشروع التجديد الديني, وتقع أحداث المنيا وتستهدف مؤسسة الطيران الوطنية, وتعلن تفصيليا نتائج التحقيقات في قضية اغتيال المستشار هشام بركات, بما يختصر حروب أكثر من ست سنوات هوجمت مصر خلالها بأدوات وأموال وجيوش وعصابات ومشاريع وإعلام موجه أسقط عشرها دولا بكاملها ولم تسقط هي, ولمن يسأل عن الصمود المصري فالسر في إفساد ثنائيات الاستقطاب المهلكة, فلا يسمح لهذا ولا ذاك ولا تمنح لكائن من كان فرص الحضور, فليس ثمة فراغ هنا ليملأوه. أولا ثنائية إيرانتركيا: إيران لتحقق إمبراطوريتها تعتمد علي توظيف قضايا الأقليات الشيعية داخل البلاد العربية باعتبارهم رعايا لها, وتوظف ميليشياتها المسلحة وتناقضات ومتغيرات الساحة الدولية, مقابل تركيا القوة الإقليمية غير العربية المنافسة الساعية لسلطنة عثمانية سنية بتوظيف تحالفها مع تيار الإخوان في مصر والشام وليبيا وبالتحالف مع التنظيمات السنية المسلحة, ومصر أفسدت تلك الثنائية فلا يتمدد أحدهما في عمقها مكتسبا شرعية زائفة من الانتصار علي الآخر, بإجبار الأدوات الوظيفية علي التراجع خطوات ممن تحدثوا وهم في السلطة بنفس طائفي وتبنوا القضية من منطلق سنة وشيعة وتركيا مقابل إيران وهتفوا لبيك يا سوريا معرضين كيان الدول العربية للدمار في ساحات الصراعات المذهبية والإقليمية, وفي حال استمرار ضخ جهاديين مصريين إلي سوريا خلف الرؤية التركية فإن مصر كانت ستشهد موجات إرهابية بحس مذهبي, وحادثة قتل الناشط الشيعي المصري حسن شحاتة في إحدي قري الجيزة بعد خطابات تحريضية من سلفيين متشددين دليل علي أن الأمور كانت مرشحة للتصعيد لتعم الفوضي الطائفية, ولعب البعض بتلك الثنائيات نتيجة اضطراب الرؤية والرغبة وهوس المشروع الأيديولوجي بداعم إقليمي كان كفيلا بإلحاق مصر بساحات التنافس التركي الايراني رهانا علي ارتباطات وخصومات فصائل الإسلاميين في مصر مع كلا المشروعين, ووقتها لن تصبح إسرائيل فقط بمأمن وبموقع قوة وسط محيط متصارع مذهبيا وأيديولوجيا كما هي الآن, بل ستصبح إسبرطة الشرق الأدني. ثانيا ثنائية شيعة سنة: كلاهما يسعي للتمدد واكتساب شرعية مزعومة بالترويج لكونه المنقذ من الآخر, فداعش نشأت وتمددت بزعم الدفاع عن هوية وحضور سني مضطهد, بينما ميليشيات الشيعة منذ السماح للزرقاوي بالعبور من هيرات عبر إيران إلي بغداد لتأسيس التنظيم الطائفي وحتي اليوم تشرعن حضورها من وراء تصدرها للحرب علي الإرهابيين التكفيريين, انتهاء بتفاصيل مشهد الفلوجة الذي يختصر المأساة التي تعيشها المنطقة, حيث تحضر الميليشيات سنية وشيعية ويتواري الوطن وتعجز الدولة ويعاني الشعب, وصولا لتغيير الهوية العربية في العراقوسوريا وتغييب الفعل العربي في سراديب التاريخ فلا يخرج لمواجهة التحديات الحقيقية التي تواجهه. ومصر صاحبة الرؤية الإسلامية التي تجمع بين الاعتدال السني دون غلو وبين حب آل البيت دون تعصب وبأزهرها الذي ينفتح علي دراسة جميع المذاهب تأبي طبيعتها التي ترعي التنوع والتعددية تحت المظلة الوطنية وحصونها الفكرية والحضارية والثقافية السماح لتلك الثنائية بإشعال الواقع المصري بالفتن من خلال أدوات وظيفية مهيأة فكريا ونفسيا للتحول إلي الحالة الميليشياوية ضد الآخر لحساب قوي إقليمية ودولية تدير هذا الصراع لهندسة واقع جيو إستراتيجي مختلف, ومصر تفكك تلك الارتباطات من جذورها سواء تنظيميا مع بدايات محاولة خلق واقع ميليشياوي سني في سيناء ثبت علاقة حزب الله والاستخبارات الإيرانية بجانب منه ليصبح ذريعة مستقبلية لحضور ميليشيات الشيعة, أو فكريا وحضاريا ولذلك نتفهم توجس بعض علماء الأزهر من تبني فردي لما يسمي مشروع التقريب بين المذاهب, فلابد لهذه المشاريع المتعلقة بملفات الأمن القومي أن تتولاها الدولة وحدها من خلال مؤسساتها المعنية, خاصة أن الأزهر الشريف كانت له مراجعات بشأن التجربة وأهدافها الحقيقية في الستينيات حتي قبل أن تباشر إيران مشاريعها التوسعية في العمق العربي وقبل أن تعتبرنا علانية ضمن مجالها الحيوي بحسب تصريحات علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني-. ثالثا ثنائية إخوان داعش: داعش يزعم أنه بديل الإخوان المتهاونين أصحاب الحلول الوسط والقلوب الضعيفة والآن يركز علي هذه الفكرة في أشرطته الأخيرة ويستغل تراجع المقاومة العربية السنية والشيعية ويطرح نفسه كبديل مقاوم لإسرائيل! والإخوان ظلت كما كانت طوال تاريخها لا تقدم علي إصلاح حقيقي يحول دون نمو جماعات التكفير المسلحة في حدائقها الخلفية, وتمارس دائما خدعة كونها البديل المعتدل لتلك التنظيمات, بينما تحرص مصر علي نقاء الصورة الإسلامية وعلي مشروعها الوطني ودورها العربي بعد أن امتهن الاعتدال الإسلامي علي يد التنظيمات والجماعات وصار علامة فقط علي الرضا الأمريكي, وامتهنت المقاومة وصارت ستارا لمختلف المشاريع التوسعية. مصر تزيح الثنائيات المزعومة, لتظل عصية علي التشكل وفق إرادات الآخرين, وتفشل مسارات الدمار والقتل الجماعي والحروب المذهبية والأهلية, وتحرق أولا بأول مناهج الاستعلاء والاعتداء علي البشر وسحق كرامتهم وإنسانيتهم وتخريب الأوطان, وتجفف المستنقعات بينما ينشغل الآخرون فقط بقتل البعوض والبعض يكتفي برشه أو هشه, بل أقنعت أمريكا الكثيرين حولنا باستبدال بعوض داعش ببعوض له لون آخر يمص دمهم لكنه أليف ناحية الغرب. مصر تبني الدولة وتحافظ علي مؤسساتها وترعي تنوعها الحضاري, بينما ينطفئ الأمل في إعادة بناء دولة في كل بلد تحكمه الميليشيات وتتصارع فيه الثنائيات. لمزيد من مقالات هشام النجار