فوضى المصطلحات واللغة السائلة المفعمة بالتعميمات المجنحة تمثل أحد أبرز معالم الكتابة العربية المعاصرة منذ عقد السبعينيات من القرن الماضى، وإلى الآن. إنها فوضى اللغة والخطابات الحاملة لها، والمسألة لا تقتصر فقط على اللغة الإصطلاحية فى المجالات السياسية والقانونية والاجتماعية، والثقافية، وإنما فى أطر التعبير اللغوى للكاتب عن أفكاره، وفى هذا السياق نرى كثرا يتصورون أن اللغة هى وعاء الأفكار وأن اللغة والتعبيرات التبسيطية الشائعة والمتكررة على ألسنة الجمهور هى الوعاء الأنسب لطرح الأفكار أيا كانت مستويات تعقيدها، هى والموضوعات التى تتناولها. وهى أمور تجاوزتها ثورة الألسنيات لأن اللغة هى الأفكار. هذه «الأسطورة الأسلوبية» - إذا جاز التعبير وساغ - جزء من بعض التقاليد المهنية التى شاعت ولا تزال فى بعض الأوساط الصحفية والإعلامية التى كانت ترى أن نجاح الكاتب أو الصحفى هو فى قدرته على توصيل أفكاره إلى عوام القراء دون تعقيد أو فصاحة لغوية. هذا الإدراك للغة الصحفية والإعلامية ساد فى أوساط الصحافة الشعبية المصرية والعربية، نقلا عن خبرات نظرائها الأمريكية والبريطانية التى كانت ترمى إلى مخاطبة القارئ الشعبى العادى، ومن ثم تميل إلى الإثارة والسجالية والصخب سواء كان الموضوع الذى تتناوله بسيطاً أو تافهاً أو مهما فى ذاته أو لانعكاساته الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية. من هنا ميلها العارم إلى تناول بعض الموضوعات الغرائبية أو التى تبدو غير عادية.. الخ. أخطر ما فى الفوضى اللغوية والاصطلاحية تمثل فى لجوء بعض الصحفيين والإعلاميين فى الفضائيات، وبعض الكتاب، إلى استخدام إنشائى للمصطلحات الجديدة فى العلوم الاجتماعية، وذلك كجزء من «الماكياج اللغوى» أو لتجميل الكتابة، أو لإعطاء مهابة ورونقاً لكتاباتهم وأحاديثهم المتلفزة فى توظيفات خاطئة تماماً ومتناقضة مع ما يريدون إيصاله إلى القارئ أو المتلقى. خذ على سبيل المثال مصطلحات من قبيل إشكالية، وتستخدم على أنها مشكلة أو الخلط بينها وبين الأزمة، والإفراط فى استخدام مصطلح الخطاب، دون معناه ودلالته ومقاربته التحليلية، والخلط بين تحليل الخطاب وتحليل المضمون على نحو ما انتشر فى بعض الكتابات والرسائل الجامعية. بعض هؤلاء الباحثين والكتاب يتحدثون ويكتبون عن الخطاب الدينى مثلاً وكأنه خطاب واحد مسيطر، أو ما يتصورون أنه الخطاب الذى يسود لدى بعض الجماعات السلفية أو التكفيرية أو الإرهابية، وكأن خطاب هؤلاء واحد، ومتجانس، ثم يطلقون أحكام القيمة المعيارية على هذا الخطاب الذى صاغوه فى أذهانهم على نحو انتقائى لمساجلته، أو إطلاق أحكام سلبية على مقولاته دونما درس لبنية الخطابات الدينية على تعددها والتداخل والتمايز فيما بين بعضها بعضاً، ثم تحليل الأطر المرجعية لهذه الخطابات، ومصادرها الفقهية والإفتائية والدعوية، وسياقاتها التاريخية والسياسية والاجتماعية، ونظامها الأسلوبى والدلالى، والتناصات داخل كل خطاب من الخطابات، والأخطر إظهار التمايز بين الخطاب الخفى والمضمر والخطاب المعلن. ثم تفكيك الخطاب وبنيته للكشف عن الخطابات المتعددة داخل الخطاب، والخطاب ما وراء الخطاب.. الخ. هذا التنميط والنزعة السجالية إزاء نمط الخطاب الدينى السياسى التكفيرى، والمحرض على العنف والإرهاب والوحشية، هو فى حقيقة الأمر هروب من الممارسة البحثية الجادة التى تعتمد على المعرفة، والاستناد إلى هياكل معلوماتية دقيقة ومنضبطة، ومعرفة منهجية، وتدريب جاد على تطبيق مناهج تحليل الخطاب. خذ على سبيل المثال الحديث عن تجديد الخطاب الثقافى دونما ضبط اصطلاحى أو دلالى هل هناك خطاب ثقافى واحد أم تعدد للخطابات الثقافية؟ وفى أى إطار وطنى أو إقليمى أو كونى؟ وفى أى مجال؟ وهل الحديث عن الثقافة عموماً أم الخطابات الثقافية حول الإصلاح التشريعى، وحقوق المواطن الثقافية والعلمية، والصناعات الثقافية الإبداعية، والثقافة والتعليم والثقافة والمجتمع والجغرافيا الثقافية فى مصر، وإدارة العمل الثقافى وإشكالياته (أو مشكلات)؟! ما علاقة ذلك بالموضوع؟، ودور التكنولوجيا فى تجديد الخطاب الثقافى. هذا الملتقى المسمى دوليا سيعقد ثلاث ورش عمل حول آليات تجديد الخطاب الثقافى، تسويق المنتج الثقافى، والشباب وتجديد الخطاب الثقافى!!. فوضى اصطلاحية ومفاهيمية تخلط بين الثقافة فى عمومها وبين الخطابات الثقافية فى غموض وتعميمات مفرطة، حيث لا توجد ورقة خلفية نظرية تضبط المصطلحات والمفاهيم، وتضع تخطيطاً للموضوع وقضاياه، وتحدد معالمه، حتى يكون هناك حوار موضوعى وجاد يحيط بموضوع الملتقى الرئيس وقضاياه وإشكالياته، وفى دراسات الحالة المطلوبة من الباحثين والكتاب من خارج مصر. هذا النمط من التفكير العام والغامض هو نتاج لحالة عامة من التفكير الانطباعى والشعاراتى، والأخطر أنه أحد تجليات التفكير الفقاعى، والجرى وراء الإصطلاحات الرائجة كموضة فكرية دون استخدامات جادة ورصينة لها. إن بعض أنماط الكتابة السائدة مصريا وعربياً فى العموم تسهم فى إشاعة الضبابية واللغو وعدم الوضوح، وأدت إلى إنتاج محرك من محركات الضجيج اللغوى الذى يشيع سحابات وسواتر كثيفة من القتامة والغموض فى الحياة الصحفية والإعلامية والأكاديمية والثقافية المصرية والعربية، والأخطر أنها تعوق الاتصال المعرفى، وتطوير الوعى الجماعى بين الجماعات الثقافية والأكاديمية، وتعوق وعى الجمهور عن استيعاب طبيعة التطور الداخلى وفى الإقليم واستيعاب تحولات العالم المابعدى - ما بعد بعد الحداثة وما بعد العولمة.. الخ - وثوراته الرقمية، والحساسية السياسية والثقافية المتغيرة فى استيعاب طبيعة التغير السريع والمكثف الذى يهدر حولنا... نحتاج إلى وقفة جادة لنقد تفكيرنا وحساسيتنا ونظرتنا لأنفسنا وسلوكنا، وللعالم المتغير لكى نتغير فعلاً وكفى ما نحن فيه.. كفى! لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح