أتوقف، كل مرة، أمام الشعب الياباني، وأمام غرامه وشغفه بالحضارة المصرية القديمة، والتاريخ الفرعوني، وهو ما صنّف اليابان واحدة من ضمن أهم خمس دول فى العالم، تحب، وتحترم التاريخ الفرعوني، وعندما يزور شعبها، الأقصر، فإنه يأتى لها حاملاً حضارته، وثقافته، وأسلوب حياته. ولكى يتضح المعنى أكثر، دعنى أقل لك إن السؤال التقليدي، الذى يوجهه لى أى صديق يرغب فى زيارة الأقصر، والاستمتاع برحلة نيلية بينها وبين أسوان، يكون "ما هو أنسب الفنادق العائمة للقيام بتلك الرحلة؟". فتكون إجابتي، فى كل مرة، أن جميع الفنادق العائمة كثيرة، ومناسبة، ولكن السؤال الأهم هو "كيف تريد رحتلك النيلية أن تكون؟"وحرصاً من اليابان على إسعاد شعبها، والتأكد من توفير متطلباته، فإن وزارة السياحة اليابانية، ترسل لجنة، فى شهر يوليو أو أغسطس من كل عام، لتفقد، الفنادق الثابتة والعائمة، التى تطلب استضافة الأفواج السياحية اليابانية، خلال الموسم الشتوي. ويعتبر الفندق الذى يحظى بقبول وموافقة اللجنة، هو الفندق "سعيد الحظ". وللحق، فإن الاختيار ليس مسألة حظ، إنما، يعتمد بالأساس، على اجتهاد إدارة الفندق فى توفير متطلبات السائح الياباني، وهو ما دفع الكثير من فنادق الأقصر، الآن، إلى تجهيز غرفها بالجاكوزي، باعتباره واحداً من المطالب اليابانية. وأعترف أننا استفدنا، كثيراً، من هذه اللجان، فلقد جاءت للأقصر للمرور على الفنادق المقدمة، ومعها ما يعرف بChecklist، وبها كل مفردات التفتيش على أى فندق، بدءاً من الغرف ومحتوياتها، والحمامات، والمطاعم، مروراً بنظم الأمن، ووسائل الراحة المتاحة، وغير ذلك من بنود التفتيش. كانت هذه القائمة عبارة عن 20 صفحة، أو تزيد قليلاً، وهو ما أتاح للفنادق، الفرصة للإرتقاء بمستويات الخدمة لديهم، بما يتناسب مع رغبة، وتوقعات السائحين. وللعلم، فإن السائح الياباني، هو أكثر السياح إنفاقاً فى الأقصر، يليه فى ذلك السائح الأمريكي. حتى إنك إن سألت العاملين المصريين فى فنادق الأقصر، عن أهم وأحب ضيف تسعدون بوجوده فى الفندق، يبادرونك بالإجابة، فوراً، وبلا أدنى تردد، "الياباني"، ولو ناقشتهم فى أسباب اختيارهم، تجد الإجابة، أيضاً، موحدة، بأنه جم الأدب فى تصرفاته، وطلباته، لا يرفع صوته أبداً، وأنه "فى منتهى الكرم" مع العاملين فى الفندق. إضافة إلى ذلك، فقد كوّن العاملون بالفنادق نظرية عن السائح الياباني، أثبتت صحتها من خلال المتابعة، هى أن السائح اليابانى لا يترك غرفته، ليبدأ جولاته السياحية، إلا ويكون قد رتبها قبل مغادرته!! هل تصدق ذلك؟! بينما يؤكد العاملون، أن غرف سياح من جنسيات أخرى، يتعذر عليهم فيها تحديد الملايات من مناشف الحمامات! هنا يتضح الاختلاف بين الشعوب والثقافات. وهو ما يذكرنى بموقف مر بي، إذ كنت مضطراً للعودة إلى القاهرة، فى مهمة رسمية طارئة وعاجلة، ولم تتناسب مواعيد الطيران المتاحة مع طبيعة الأمر، فأخبرنى مسئولى مطار الأقصر بإمكانية استخدام طائرة شارتر، وصلت للتو، قادمة مباشرة من اليابان إلى الأقصر، وليست مدرجة على جدول الرحلات القادمة، مما يتيح لى استخدامها. وصعدت، بالفعل، إلى الطائرة، وقبل أن اتخذ مقعدي، اصطحبنى قائد الطائرة فى جولة داخلها‘ قائلاً "هل تصدق أن هذه الطائرة كانت، لتوها، ممتلئة بالركاب لمدة 14 ساعة متواصلة، من طوكيو إلى الأقصر؟" والحقيقة أننى ذهلت من حال كابينة الركاب، فأرضها نظيفة ليس عليها ورقة، ومقاعدها معتدلة بانتظام، وحماماتها نظيفة، لدرجة تظن معها، أنها لم تستخدم مطلقاً. فقلت له أنها ثقافة شعب ... وسلوك شعب، تعلم النظافة والنظام، وتوارثهما عبر الأجيال. ولعلنا، جميعاً، نذكر، بأسى، أحداث مذبحة الأقصر، التى أراقت الدماء فى البر الغربي، فى نوفمبر 1997، وراح ضحيتها 58 فرداً، منهم 10 يابانيين، مخلفة أكبر الأثر فى قلوب الجميع، مما دفع الحكومة اليابانية الى طلب إقامة نصب تذكارى لضحاياها فى منطقة الحدث، فى "معبد الدير البحري". نقل لى هذا الطلب، السفير اليابانىبالقاهرة، مؤكداً، أن أهالى الضحايا قد أسهموا بجزء من تعويضاتهم، إضافة إلى مساهمة حكومة اليابان، من أجل بناء هذا النصب التذكاري. والواقع أن الأمر كان غاية فى الإحراج، فأنا أتفهم، تماماً شعور اليابانيين، حكومة وشعباً، وفى نفس الوقت ليس من المعقول أن نبنى نصبا تذكاريا فى أهم مناطق الأقصر، نظراً لطبيعتها التاريخية من ناحية، ومن ناحية أخرى لما سيخلفه، ذلك، من أثر نفسى فى قلب أى سائح قادم إلى الأقصر. فبدأت الاقتراب، بالفكر، من السيد السفير، مؤكداً رغبتنا المشتركة فى تخليد أرواح الضحايا، ومتسائلاً عن جدوى بناء جدار من الطوب والأسمنت لهذا الغرض. ثم عرضت عليه أن يكون تكريم أرواح الضحايا، عن طريق إنشاء مكتبة متكاملة بالأقصر، تكون عنواناً لروابط الصداقة بين البلدين، تقدم العلم، والمعرفة، والثقافة لأهالى البر الغربى خاصة، وأهالى الأقصر عامة. وننقش على جدرانها اسماء الضحايا اليابانيين، فتكون ذكرى لأرواحهم، بأسلوب يليق بالشعب الياباني. فكل من يقرأ، فيها، كتاباً أو يتعلم بها لغة جديدة، أو يدرس الحاسب الآلي، سيكون ذلك أجمل ذكرى لأرواح هؤلاء الضحايا. وكانت هذه الفكرة، بمثابة مفاجأة بالنسبة للسفير، ولم ينكر إنبهاره بها، إلا أن الأمر يتطلب العرض على حكومته، قبل الموافقة. وفى خلال شهر، من لقائنا، جاءنى الرد بالموافقة، وبدأ العمل. أقول هذا لأوضح عراقة، وحضارة الشعب الياباني، فى قبوله للرأي، والفكر الآخر، خاصة إن كان ذلك فى إطار الإنسانية، والعلم، والثقافة، وليس على أساس التمسك بالرأي، والإصرار عليه. لمزيد من مقالات لواء أ. ح. د. م. سمير فرج