أنتظر، وأتمطى بقدمى داخل حذائى تأهباً وحماسة، عالقة بالعملة المبتغاة بين يدى أمى وبين الطبق المعدنى "المجلفن" .. أترقب الحصول على القرش صاغ كتذكرة لرحلة الدهشة، ما إن أحصل على القرش حتى انطلق صوب غياهب الفضول التى تبدأ باختراق حارة، وولوج أزقة. هى مشقةً لأى منا, حال جلب مطلب ضرورى .. لكن الأمر هنا مشوق, لأنى بصدد رؤية "بتول".. تلك الفتاة التى تتحاكى بها كل النسوة فى الأمسيات حول التلفاز.. أمها بائعة مخلل.. فقيرة معدمة! ومقعدة، فقدت إحدى ساقيها تحت عجلات قطار نزوحها إلى الإسكندرية. كيف تتدبران أمرهما؟ كيف تتفوق تلك الفتاة النحيلة، ذات الجسد الضامر شحيح المواهب، والشعر المتنافر حول وجهها و فوق ردائها الكالح المرتق، كيف لها الطب؟! كيف لبائعة المخلل "الكاتعة" أن تنادَى بأم "الداااكتورة"؟! أما نحن الفتيات الصغيرات.. كنا نرى نحافتها جمالاً ليس بعده جمال، وحاجبيها الغزيرين علامة النبوغ، و نصر على ارتداء الحذاء "البلاستيكى" اقتداءً بها، حتى وصل الأمر بإحدانا أن ارتدت عدسات طبية تيمنًا بها، وأخذت تتحسس طريقها! بعد اقتناص القرش صاغ الدافئ من صدر أمى، أهرول تجاه الحارة والأزقة، وأقرع على الباب الخشبى العتيق بالممر حتى تستبين لى من خلف ستار فتجذب طرف الحبل المقترن بالمزلاج، فأطأ الممر بين بابى منزلين تقطن هى فى نهايته! مكمن الدهشة هنا؛ أن تعيش امرأة هى وابنتها فى ممر بين منزلين، بعد سماح ملاكه لهما بالمكوث ترفقا بحالهما، وجادوا عليهما بسرير خشبى بالكاد يتسع لهما، وبالكاد تتسع له المساحة بين المنزلين، والمرأة احتالت على المساحة برفع أرجل السرير الخشبى بعدة قوالب من الطوب الطفلي ليرتفع عن الأرض، ويصير بمثابة خزانة سفلية لجرار المالح الذى تعتقه، واشتهرت بطيب مذاقه وتميزها به: من صنوف الليمون، والجبن ومشتقاته، والخضار الموسمى القابل للتطويع داخل الجرار المعتقلة والمتراصة أسفل الفراش! كنت أطوف بناظرى بحثا عن مكان قضاء حاجتهما، وأين تحتفظان بملابسهما غير القطع المطوية بإمتثالٍ، فوق حبلٍ فى ركن أعلى السرير يلامس رأس من أرادت منهما رفع هامتها "فى حال أرادت أن.." وأين تحتفظ "بتول" بكل تلك الكتب التى أكلتها درسا كما تقول النسوة، والتى أهلتها للالتحاق بكلية الطب. دوماً تقاطع رحلة تنقيبى بسؤالها عما إذا كنت أرغب إضافة شىء على الجبن، فأوثق رغبتى بإضافة بعض قشر البرتقال اللاذع وقرون الفلفل الأحمر الحريف من أجل أبى،أو "المورتا"، وأظل أتململ وأطالب بالمزيد وأدخل معها فى نقاش وأسئلة، تدور جميعها حول "بتول"، وأنتظر الإجابة، وأطرح المزيد من الأسئلة، والأم يضىء وجهها بالرضا وتبتسم، وعيناها تنويان على الدموع.. فلا يخرجنا من علقتنا تلك سوى قرآن المغرب الذى ينذر بدنو مدفع الإفطار.. فتترفق بى وتطلق سراحى من دهشة الأجوبة واحتيالات الأسئلة؛ فترفع الغطاء عن وجه البتول، فألمحها تغط فى سبات طفلٍ وتلتقم إبهامها.. فأبتلع دهشتى، وألتقط طبقى، وأجتاز البوابة، ثم الأزقة، ثم الحارة، ثم طاولة منزلنا، فى اللحظة المناسبة الفاصلة.. لم أقف عند ذاك الحد فى قصة ولعى وانبهارى بشخص "بتول" وتأثرى بها أنا ورفيقاتى.. بل وصلنا حد المؤازرة والاقتطاع من نصيب ترف كل منا، ربما نالنى أكبر جزء من هذا حين سمعت حديثها عرضا فى إحدى جولات الدهشة، وهى تعرب عن رغبتها لأمها فى ارتداء ولو قطعة واحدة من الملابس تستر بها عوزها المتجلى وسط أقرانها من الدارسين،أو قطعتين يمكنانها من بعض التغيير فى الإطلالة, والإضافة، والتطويع. حينها شرعت الفكرة تسرى فى رأسى كالجريمة مكتملة الأركان، أرسم خطواتها وأرتبها كمتدربة لدى أفضل ناصبى شراك تحت الثانية عشرة. تعتمد الخطة على أن أمى لديها ماكينة خياطة، تمارس التدرب والمران بها على تحسين مظهرنا، وندفع الجزية صاغرين بارتداء ما تحيكه بها، ستطير زهوا وفرحا حال إخبارى إياها برغبتى فى ارتداء "تايير"، و"بتول" نحيفة وتماثلنى حجما. ناولتنى أمى "التايير" بناء على رغبتى وإلحاحى فى أن تمنحنى الفرصة للتباهى أمام قريناتى، وحذرتنى من نزقى وإهمالى لكيلا تناله بقعة أو تقع عليه نقطة شمع سائل من الفانوس، وتعهدت والتزمت بالقطع والقسم بمقابر العائلة جميعا أن أرجع لها وليد إلهامها وفنها سالما غانما. عدت إلى المنزل باكية، وهدَّأت أمى من حالى وربتت علىّ ووعدتنى أن تحيك لى ما هو أجمل وأزهى. ظلت على عهدها.. ترسلنى بطبقها المعدنى الأجوف ذى الوردة الحمراء، وأعود إليها بطبق الدهشة فرحة منتشية بالفوز برحلة الذهاب والإياب، كعصفورة مزغبة أقطع الطريق محلقة، وأحمل بين جناحى مؤونة اطلاعى على ما خفى عن مثيلاتى فى طبق لاذع حريف، يخيل لى أنه من الماس! منذ بضعة أيام التقيت إحداهن من الحى القديم، واحدة من اللاتى عاصرن معى أسطورة "الداكتورة" التى اجتاحتنا إبان طفولتنا.. وبالطبع تحادثنا، وتذكرنا، وتضاحكنا.. ورغبت فى إثارة الدهشة من سباتها.. لكنى لامست مرارة اعترت رفيقة صباى حين سألتها عنها، قالت بأسى بالغ: تخرجت، وسمعت أن أعمامها ظهروا فجأة، ورشحوا لها الزواج بابن عمهم الذى يعمل بإحدى الدول الخليجية، ثم جاءت إلى المستشفى الأميرى، بعد عودتها، منتقبة تُجَرى خلف زوجها الملتحى.