وظائف السعودية 2024.. أمانة مكة تعلن حاجتها لعمالة في 3 تخصصات (التفاصيل والشروط)    بالصور.. انطلاق أول أفواج حج الجمعيات الأهلية إلى الأراضي المقدسة    سينتكوم يعلن إسقاط 5 مسيرات أطلقها الحوثيون فوق البحر الأحمر    شيكابالا يطلق مبادرة للصلح بين الشيبي والشحات، واستجابة فورية من نجم الأهلي    هدوء يشوبه الحذر، الأرصاد تحذر المصريين من 3 ظواهر تقتل المتعة بطقس اليوم    محمد فاضل بعد حصوله على جائزة النيل: «أشعر بالفخر وشكرًا لوزارة الثقافة»    صلاة الفجر من مسجد الكبير المتعال فى بورسعيد.. فيديو وصور    مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 29 مايو في محافظات مصر    حج 2024| هل يجوز حلق المحرِم لنفسه أو لغيره بعد انتهاء المناسك؟    حج 2024| ما الفرق بين نيابة الرجل ونيابة المرأة في الحج؟    فيديو ترويجي لشخصية إياد نصار في مسلسل مفترق طرق    الحوثيون أطلقوا 5 صواريخ بالستية مضادة للسفن في البحر الأحمر    نصف شهر.. تعرف على الأجازات الرسمية خلال يونيو المقبل    «كان زمانه أسطورة».. نجم الزمالك السابق: لو كنت مكان رمضان صبحي ما رحلت عن الأهلي    شهداء وجرحى جراء قصف إسرائيلي على جنوب قطاع غزة    إسرائيل تسير على خط العزلة.. والاعتراف بدولة فلسطين يلقى قبول العالم    يرسمان التاتوه على جسديهما، فيديو مثير لسفاح التجمع مع طليقته (فيديو)    جوزيف بلاتر: أشكر القائمين على منظومة كرة القدم الإفريقية.. وسعيد لما وصلت إليه إفريقيا    اليوم.. الحكم علي المتهم بقتل طليقته في الشارع بالفيوم    حزب الله يبث لقطات من استهدافه تجهيزات تجسسية في موقع العباد الإسرائيلي    ادخل اعرف نتيجتك..نتائج الشهادة الإعدادية في محافظة البحيرة (الترم الثاني) 2024    واشنطن: هجوم رفح لن يؤثر في دعمنا العسكري لإسرائيل    ارتفاع أسعار اللحوم في مصر بسبب السودان.. ما العلاقة؟ (فيديو)    وزير الصحة التونسي يؤكد حرص بلاده على التوصل لإنشاء معاهدة دولية للتأهب للجوائح الصحية    إصابة 6 أشخاص في حادثي سير بالمنيا    كريم العمدة ل«الشاهد»: لولا كورونا لحققت مصر معدل نمو مرتفع وفائض دولاري    حسين عيسى: التصور المبدئي لإصلاح الهيئات الاقتصادية سيتم الانتهاء منه في هذا التوقيت    إلهام شاهين: "أتمنى نوثق حياتنا الفنية لأن لما نموت محدش هيلم ورانا"    هل يمكن أن تدخل مصر في صراع مسلح مع إسرائيل بسبب حادث الحدود؟ مصطفى الفقي يجيب    شيكابالا يزف بشرى سارة لجماهير الزمالك بشأن زيزو    «مستعد للتدخل».. شيكابالا يتعهد بحل أزمة الشحات والشيبي    «خبطني بشنطته».. «طالب» يعتدي على زميله بسلاح أبيض والشرطة تضبط المتهم    إرشادات للتعامل مع مرضى الصرع خلال تأدية مناسك الحج    نشرة التوك شو| تحريك سعر الخبز المدعم.. وشراكة مصرية عالمية لعلاج الأورام    باختصار.. أهم أخبار العرب والعالم حتى منتصف الليل.. البيت الأبيض: لم نر أى خطة إسرائيلية لتوفير الحماية للمدنيين فى رفح.. النمسا: مبادرة سكاى شيلد تهدف لإنشاء مظلة دفاع جوى أقوى فى أوروبا    3 أبراج تجد حلولًا إبداعية لمشاكل العلاقات    أسماء جلال تكشف عن شخصيتها في «اللعب مع العيال» بطولة محمد إمام (تفاصيل)    شعبة المخابز تكشف حقيقة رفع الدعم عن رغيف الخبز    هل طلب إمام عاشور العودة إلى الزمالك؟.. شيكابالا يكشف تفاصيل الحديث المثير    رئيس رابطة الأنديةل قصواء: استكمال دوري كورونا تسبب في عدم انتظام مواعيد الدوري المصري حتى الآن    كريم فؤاد: موسيمانى عاملنى بطريقة سيئة ولم يقتنع بى كلاعب.. وموقف السولية لا ينسى    سعر الفراخ البيضاء والبيض بالأسواق اليوم الأربعاء 29 مايو 2024    إبراهيم عيسى يكشف موقف تغيير الحكومة والمحافظين    اليوم.. محاكمة المضيفة المتهمة بقتل ابنتها في التجمع الخامس    طريقة احتساب الدعم الإضافي لحساب المواطن    تراجع سعر الحديد وارتفاع الأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 29 مايو 2024    رسائل تهنئة بمناسبة عيد الأضحى 2024    «الأعلى للآثار» يفتتح مسجد الطنبغا الماريداني بعد ترميمه.. صور    أحمد دياب: فوز الأهلى والزمالك بالبطولات الأفريقية سيعود بالخير على المنتخب    الوقاية من البعوضة الناقلة لمرض حمى الدنج.. محاضرة صحية بشرم الشيخ بحضور 170 مدير فندق    «زي المحلات».. 5 نصائح لعمل برجر جوسي    ما حكم الصلاة الفائتة بعد الإفاقة من البنج؟.. أمين الفتوى يجيب    بدء الاختبارات الشفوية الإلكترونية لطلاب شهادات القراءات بشمال سيناء    ننشر أسماء المتقدمين للجنة القيد تحت التمرين في نقابة الصحفيين    جمال رائف: الحوار الوطني يؤكد حرص الدولة على تكوين دوائر عمل سياسية واقتصادية    اشترِ بنفسك.. رئيس "الأمراض البيطرية" يوضح طرق فحص الأضحية ويحذر من هذا الحيوان    شروط ومواعيد التحويلات بين المدارس 2025 - الموعد والضوابط    محافظ مطروح يشهد ختام الدورة التدريبية للعاملين بإدارات الشئون القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«خان الخليلى»..لماذا أضعنا كل شىء؟
نشر في الأهرام اليومي يوم 29 - 05 - 2014

هذا المقال واحد من بين مجموعة مقالات غير منشورة كتبها الفنان التشكيلي الراحل حسن سليمان قبيل وفاته وتركها ضمن اوراق كثيرة تعمل ابنته ليلى المخرجة المسرحية على نشرها وتبويبها ،ضمن مشروع تبنته الهيئة المصرية العامة للكتاب لاعادة نشر مؤلفاته
وتشير ليلى الى ان هذه المقالات كتبت ضمن مشروع ألح على الفنان لكتابة مذكراته ، ففي ايامه الاخيرة كان دائم الحنين لاماكن وشخوص ارتبط بها في حياته ، ومع تأخر حالته الصحية نصحه اصدقاء من بينهم التشكيلي السوري يوسف عبد لكي والتشكيلي عادل السيوي بكتابة مذكراته كما طلب منه اخرون ان يسجلها بصوته على شرائط كاسيت يتم تفريغها فيما بعد
وتحكي سكرتيرته هبة الله أحمد للزميل سيد محمود حسن الذى نجح فى الحصول على هذه المقالات كيف ذهبت معه لشراء كاسيت حديث من احد المحالات الشهيرة ، غير انه انحاز لكاسيت اقرب للطراز القديم وتتابع « كان يصحو في وقت مبكربسبب مشكلاته الصحية ويحاول التعامل مع الشرائط ، في عزلته المختارة لكنه عاد للكتابة بالقلم مستجيبا لعلاقته الاثيرة بالكتابة وكتب هذه المقالات التي لم يمهله القدر لتبويبها ».
وتشير ليلى الى ان المقالات التي بحوزتها كتبها والدها كحنين لاماكن ارتبطت بذاكرته بشأن صورة المدينة سواء كانت القاهرة او الاسكندرية ، ومن هذا المدخل كان يتناول صور التدهور التي لاحظها في اشياء كثيرة من حوله.
وحسن سليمان احد ابرز فناني مصر في الخمسينيات وما تلاها وبخلاف قيمته كمصور بارع ، هو ايضا منظر وناقد اتسمت كتاباته بخلاف حساسيتها الادبية بنوع من الاستبصار والقدرة على التأمل الى جانب لغة فريدة تفتح على فنون كثيرة وتتسم بخاصية الاقتصاد اللغوي وهي خاصية اكتسبها من علاقته بالكاتب الراحل يحيي حقي الذي عمل معه في مجلة الهلال .
وبسبب تمكنه من لغات عديدة اتسمت كتابات سليمان بالغزارة واتساع معارفه وهو امر يمكن الاستدلال عليه من مراجعة مؤلفاته العديدة ، خاصة « حرية الفنان وكتابات في الفن الشعبي وترجماته للنصوص الشعرية كما في كتابه « ذلك الجانب الاخر « فضلا عن سلسلة مؤلفاته التعليمية التي كتبها لحفز القراء على التعامل مع الثقافة البصرية والتي شملت كيف تقرأ خط وكيف تقرأ لون»
وعبر مشروعه كفنان تشكيلي تأكد انحيازه إلى البسطاء والحياة الشعبية، سواء فى المشاهد التى حرص على نقلها من الريف أو تسجيلها عن الأحياء المتواضعة (الفقيرة)، أو حين يرسم شخوص الطبقات المتوسطة فى لوحاته، ولم تبعده الحياة الأرستقراطية عن تأمل هؤلاء القاطنين على الهامش.
كما يشيع في اعماله بحسب نقاده ملمح قصصى حيث تراه يسجل مشهدا قد يكون بداية الحكى أو عقدة القص، أو خاتمة السرد، ولكن لوحاته تحمل قصة ما صامتة. لكنه فيما يبدو كان يعوض هذا النقص بالكتابة كأنه يجاور بين سردين ، سرد لوني واخر بالكتابة.
ومعروف ان الفنان كتب نصوصا كثيرة شاع فيها تعبيره عن نفسه بضمير الغائب فى بعضها وفى البعض الآخر اعتمد على صيغة القرين، إذ يخاطب قرينه كأنما يواجه مرآة عاكسة لقلق لا ينتهي. (ملحق الجمعة)



كانت خالة أمى، ترتق كل ملاءة سرير قديمة، ترتق، ترتق. وتصر قائلة: «من ليس له قديم، ليس له جديد». نحن الأطفال كنا نتندر عليها.
والآن بعد أن تقدم بى السن، أشعر أنها كانت على صواب، بل كانت حضاريًاً أنضج منا. لم أدرك معنى هذا التصرف والإصرار إلا وأنا شاب أتسكع فى خان الخليلى. وأتردد على محال العاديات والتحف القديمة. يحمل لى خان الخليلى عبق حضارة أخشى أن تندثر نهائيًاً. ذكرياتى عن خان الخليلى حنينٌ نازفٌ لماضٍ لم يعد. أزقة تحلم فى الظلمة. ووقع أقدامٌ هامسة، ضوء خافت يتسلل من حوانيت شبه مغلقة إلا من العاديات والقطع الفنية النادرة وراء واجهات زجاجية لم يأبه البائع فى إضاءتها أو إزالة التراب عنها. فهو واثق من سمعته وواثق من بضاعته. سجاجيد ملقاه بإهمال بأركان المحلات، سجايد لم يعد لها وجود الآن فى العالم. يقدح المكان من حين لأخر بشذا بخور ينبعث من داخل المحل شبه مظلم مع رائحة الشاى بالعنبر أو بالنعناع. كل شىء فى خان الخليلى كان هامسًا، حتى كلام البائعين مع الزبائن همس. انكباب البائع والمشترى على قطعة فنية أو عقد قديم من «اللابس» أو «التوباز». صمت من حين لآخر، يكسر انسياب ذلك الحلم طرقات خفيفة لعامل يوشى صينية أو إناء نحاسى بأسلاك الفضة .
..............
أحن دائما أن تلمس يدى قطعة فنية رائعة، أدفع فيها كل ما في جيبي كأنها كنزٌ. كانت متعة لا تجاريها متعة بالنسبة لي كفنان شاب إذ كان هذا التصرف مقصورا علي الأجانب الموسرين المقيمين في مصر. رغم أن اقتناء العاديات سمة لكافة المثقفين في العالم، فهي جزء من تكوينهم الثقافي، تحدد إلي أى مدى ارتبطوا بماضي وحضارة العالم. أما في مصر فنحن نفتقد مثل هذا الارتباط علي الرغم من أنه ما يزال يقظاً حياً مهماً في أنحاء العالم بالنسبة للفنانين والمثقفين والأثرياء يذكرهم بأهمية وجودهم للحفاظ علي الحضارة.
يصرون علي استمرارها، فبالنسبة لهم تمثال مهشم أو سجادة ممزقة في سكونها تحمل سحر وعبق الماضي. كلها أشياء يرتاحون لها وتحنو عليهم، في عصر سيطرت فيه الألية وجمود العجائب الصناعية.
..............
خان الخليلي بالنسبة لي كان حنيني إلي جذورى الضاربة في أعماق الوجود، يشعل في ذاكرتي كلمات خالة أمي: «من ليس له قديم، ليس له جديد»، ما زلت أذكر أكلاتي في مطعم أصفهان، وأشتاق إلي الأكلات الفارسية المضخمة بالزعفران، فمعظم من يعملون هناك في المطاعم والمقاهي كانوا من الشيعة والإيرانيين، أين أنا من مثل هذا الماضي وشاى الإصطباحة بجانب عباس الذى اشتهرت حقائبه عالمياً وبجانبة أشهر قصبجي -أى من يوشي الملابس بالقصب. أين أنا الآن من كل هذا؟
..............
لم يعد شىء يستثيرني الآن ولا واجهة محل في خان الخليلي، لقد أمم قطان وذهب، ورحل نصار. فلم يعد قطان ولا نصار ولا العجاتي، وابن عم صابر أصبح يصنع مشربيات جديدة رديئة. أولاد عم جندى والمنصورى اكتفوا ببيع فضة مزيفة. لقد أصبح الآن مرورى في خان الخليلي حملٌ ثقيل. أصبح الخان: صراخ، أضواء فجة لم تعد تتحملها عيني، اختفت أرستقراطية البائع والشارى والحرفي من خان الخليلي، إنه ضياعٌ لتراثٍ عريق عبر الآف السنين كاد أن يمحي نهائياً مع وجود السائح غير المثقف الذى يريد تذكارًاً رخيصًاً عن مصر. كل ما حولي ضجيج وإزعاج وإسفاف وذوق فاسد وأضواء يزعجك تلاحقها وتصادمها مع بعض. وفي وسط هذا مقهي ينم عن فساد ذوق مهندس الديكور، مقهي ومطعم «نجيب محفوظ»، المكان مزعج وكل ما يقدم فيه سئ. ولماذا في خان الخليلي الذى اشتهر فيما سبق بالمقاهي والمطاعم التي تقدم أفضل أنواع الشاى والأطعمه الشرقية. وإن كان نجيب محفوظ قد تحدث عن «زقاق المدق» و»قصر الشوق»، هل ضاق بهم «زقاق المدق» و»قصر الشوق» حتي أتوا إلي خان الخليلي ليزيده تشويهًاً؟ لماذا نضيع كل شئ جميل في حياتنا؟ ولماذا نتباكي علي السياحة؟ ومن المسئول عن هذا التشويه؟
..............
كنا دائماً إذا سرنا وسط أزقة القاهرة، نجد أنفسنا وسط ضجة منبعثة من المكان، قد تكون ورشة حداده أو نجارة أو مسبك نحاس، أو أصوات صبية ترتل القرآن فى كتاب قد تهالكت جدرانه، أو مخزن كتب قديمة ومخطوطات. أما الآن فهى تعد بالبوتيكات التى تبيع الملابس الجاهزة ذات الأقمشة الصناعية الرخيصة بألوانها الفجة، بدلاً من الورش والصناعات اليدوية.
..............
ووصل بنا الأمر أن تسرق وتختفى حتى اللوحات التى كانت ملصقة بأسماء الحارات والعطفات، المصنوعة من المينا وكتبها أحسن الخطاطين، وكذلك اللوحات بالمينا عن أرقام المنازل، لقد وجدتها تباع على أنها نماذج من الفن والخط العربى الرفيع لدى بائعى الأنتيكات بلندن وألمانيا، وأحللنا محلها على جدران منزلنا كتابات رديئة بأصباغ ضعيفة تحمل أسماء الحارات والأزقة، لماذا نضيع كل شئ؟ لماذا لا نبقى على ما هو قديم لدينا؟ إما أن نحطمه أو نبيعه للإفرنج، ولماذا نتحسر على أننا بعنا أشياء من ماضينا؟ وقد وصل بنا الأمر أننا كدنا نبيع أنفسنا، فبكل تبجح صرح مسئول اسرائيلى بأنه لا خوف من مصر لقد اخترقناها من الداخل، لا أريد أن أعلق على هذا.
..............
أحن دوماً أن أكون بجوار جدران أحببتها، أن ألمسها، تذكرنى بمدى الحمل الثقيل الذى حملته مصر بالنسبة لحضارات العالم ولم تكن أوروبا قد استيقظت بعد.
كففت منذ فترة قصيرة عن الذهاب إلى تلك المناطق حتى لا أشعر بضياع ولا يضيع منى حلم مضى. بدأت الآن بعثات الترميم والمعونات فى ترميم تلك المناطق. لا أستطيع التكهن إلى أى مدى وصلت تلك البعثات. فثورة معظم الناس على ما رمم وما يجرى ترميمه تتزايد يوماً بعد يوم، إضافة إلى أن الأقاويل والإشاعات تجعلنا نضع علامة استفهام على نوايا وإمكانية بعثات الترميم هذه. هذا إلى جانب سبب آخر يجعلنا نشعر ألا جدوى من الترميم فالأثر مرتبط بزقاق أو شارع بالتأكيد سيكون قاصراً على المبنى فقط، لكن ما هو الحل بالنسبة لما يحيط الأثر من أكوام القمامة وعبث صبية وعدم مسئولية القاطنين. قال لى ذات مرة أحد السكان: «نترك نحن بلا مياه ولا مجارى ويرممون أثر، هل الإنسان أصبح بلا قيمة، لو استطاعت أن أحرق هذه الجدران لفعلت. عند الصفر تتساوى كل القيم، ومن الصعب أن نجعل مثل هذا الرجل يشعر بأهمية الحفاظ على هذا الأثر وشعوره بالفخر لوجود مثل هذه البناية في زقاقه، فيحاول دوماً الحفاظ عليها وأن يبقى ما حولها نظيفًا.
..............
حينما كنت أجول بتلك المناطق، آه لوكنت معى ومررنا بجانب مجمع قلاوون وصادف فى ذلك الوقت وقوف اللورى الذى يحمل صناديق المياة الغازية، لا تنزعج أبداً لو رأيت رجالا يتصببون عرقاً مرتبكين عصبيي المزاج يحولون الصناديق إلى مجمع قلاوون، لا تنزعج لو رأيت صندوقاً يصطدم بالباب النحاس أو الحائط الحجرى القيم وينتزع جزءاً من نقش حجري، لا تنزعج، فمنذ مدة طويلة حول أحدهم مدخل قلاوون لتخزين صناديق المياة الغازية. ولا تنزعج وأنت بجانب شيخون لو اندفع إليك كبش رُبط فى النافذة وكاد أن يخلعها وأكوام التبن ملقاة عاليه بجانب موقد غاز مشتعل. ولا تنزعج أبداً من أن باعة الفاكهة قد أتلفوا جدران ونوافذ جامع أبو الذهب. كذلك سرقت كل القناديل التى كانت مدلاة سليمة حتى وقت ليس بالبعيد من المساجد، وحلت محلها المصابيح النيون البشعة. لا شئ يهم لو اكتشفت أن أرضية «جامع أبو بكر مظهر» وجدران تتناقص منها والخردة «الموزايك» التى تكسوه يوماً بعد يوم، وزوجة الحارس مشغولة عنك بصنع حلة محشى. لا تنزعج لو فوجئت ببقال قد علق حوائجه وجلس يبيع داخل وكالة قايتباى لمئات العائلات التى قطنت حجرات الوكالة الضيقة، ولا تنزعج أبداً لو منعتك مياه المجارى من الولوج داخل الأثر. لا تنزعج بتاتاً فكل هذه الأماكن من بقايا وكالات ومساجد وخنقاوات أصبحت تسكن حتى المقابر. وأصبح المسيطر على جدران مثل هذه الأماكن صورة لاعب كرة قدم أوممثل أو راقصة، ولا تنسى أسلاك الكهرباء والغسيل المنشور وأكوام القمامة وشجار النسوة مع بعضهن، ماذا تعنى الأثار بالنسبة لهم، ويوماً بعد يوم تتناقص أو تتأكل أو تختفى «وزرة خشبية» أو نقش حجرى أو جزء من مشربية، كما أختفت المقابض البرونزية لباب قلاوون النحاسي الضخم، وهى مازالت لدى فى الصور الفوتوغرافية. المرارة تملؤنا لكننا نقول البلد يمر بظروف صعبة، وسيأتى يوم نتدارك فيه مثل هذه الأوضاع ونتجاوزها. لكن هل سنتدارك بعد فوات الوقت؟ ونتعجب إلى أى مدى كانت وصاية الموظفين الإنجليز والفرنسيين على الآثار المصرية يحدوها الحب والإخلاص لكل ما يمت للحضارة المصرية العريقة. لماذا حرص الأوربيون على آثارنا وتراثنا بينما نحن ندعه يسرق ويتحطم.
..............
فلنمض سويا إلى مقهى بيجو فى قبوه القديم بجانب حانوت عبده صابر، لازال كما كان بدكة واحدة بطول القبو، وبيجو ليس اسمه الحقيقى إذا أطلق عليه هذا الاسم تاجر يهودى كان يذهب إليه ببراد الشاى. أفضل شئ حينما تكون مع بيجو أن تنبشه بكلمة ثم تغمض عينيك تركاً بيجو يسترسل فى الحديث عن ماض غابر لن يعود ثانية، ولننصت إلى بيجو: «هل تعلم أن ببوابة الوكالة التى بها هذا المقهى كان أسفلها من الرخام، مع تراكم القذورات والأتربه وارتفاع الطريق لم تعد نرى الرخام اللامع. لم يحاول أحد أن يرجع الأرضية الرخامية كما كانت. لم يكن المقهي في ذلك القبو الضيق بالوكالة، أبي هو الذى انتقل إليه، المقهي كان أيام جدى يشمل كل المساحة التي تحت عقد مدخل الوكالة بأرضيتها الرخامية، مصطبة في كل جانب وكثيرًاً ما كان يأتي الشاعر بربابته. كان جدى يحاول دائماً أن يبقي المكان لامعاً كأن البناؤون تركوه منذ ساعات، هل تغيرنا ؟ كان كل واحد أيام جدى يريد أن يثبت لكل من حوله من التجار الأجانب رغم فقره، إنه لا يقل عنهم نظافة أو نظاماً، لماذا لم يعد المصرى يبالي الآن بمثل هذا التحدى؟ كان التجار الأجانب يحترمونه ويتهافتون علي طلب الشاى منه. وأنا ما أزال أذكر الأستاذ حسن عبد الوهاب (المهتم بالآثار) حين يأتي إلينا ويظل يسأل كل المسنين وجدى عن العقارات الموجودة والوكالات وكيف كان حالها والأسماء التي كانت تطلق عليها والخنقاوات ومن كان يرتادها. يردد دائماً لجدى أنه لو اكتشف نقصان شئ أو تغيير في جدار منزل، فعليه ألا يتواني عن الإتصال به حتي يخطر المسئولين الأجانب. هل كان يجرؤ أحد يدق مسمارًاً واحدًاً فى حائط قديم؟ أبدًاً. لو حدث هذا كان حسن عبد الوهاب يغضب ويثور ويذهب إلى كل الجهات وإلى كل المسئولين، ولا يرتاح حتى يزال المسمار من مكانه.
..............
أعصابى مرهقة ولا أريد أن أتعبها أكثر فالأفضل ألا أتحدث لأنى لا أريد تذكر مثل هذه المسائل. التركة ثقيلة، والمشكلة قائمة، والخطر يتزايد، والخطأ فينا نحن. لم يعد لدينا إنضباط التزام آباءنا فى الثلاثينيات وغيرتهم على بلدهم وتقديرهم للمسئولية والتزامهم الأمانة والدقة. «بيجو» مرهق وتعب، وأنا مرهق وتعب.
وأنظر إلى صورة جد بيجو فى إطارها من الخرط العربى المحلى بالصدف، قهوجى قاهرى من أوائل هذا القرن. يضع العمامة صغيرة فى ناحية من مؤخرة رأسه أما حزامه الحريرى «الألاجا» فقد عقده فى خاصرته وتدلت أطرافه في استرخاء فوق القفطان. يحمل كل كبرياء الماضى ويملك كل شجاعة القاهرى لكى يقف في وجه الإستعمار الأجنبي، فهذه بلدهم وهذه هى مدينتهم، وهذا هو تراثهم هم. رجل بسيط مضى في سكون، لم يكن خبيراً فى الآثار ولكنه كان يغسل الحائط الحجرى. كان يستطيع أن يبيع ويشترى ويسرق وينتزع لكنه اكتفى بأن يمد حسن عبد الوهاب الذى لن يأتى لنا المستقبل بمثله، بحبه لتراثه الإسلامى، يمده بكل ما يعلم، ويساعده في المحافظة على ما بناه أجداده. أجل، رجلاً متحضراً أكثر بكثير من مئات المتشدقين بما لا يعلمون. أين نحن الآن بترحيبنا غريب الشكل لكل أجنبى وافد حتى لو كان أحقر منا. لماذا حطمنا الآثار التى حافظ عليها ورممها المسئولون الإنجليز والفرنسيين؟ وأعطوها أرقام وسجلوها، وبعد ذهابهم عنا تضاءل عدد اللوحات الزرقاء المصنوعة من المينا التى كتب عليها أثر رقم 703 أو 520. لماذا يتزايد العد التنازلى حتى كادت العقارات والأثار أن تندثر؟ إن هذا يحقق مقولة ابن بطوطة حين زار مصر: «يصنعون الدرر ثم يزيلونها»، فلقد ضايقه أكوام القمامة حول مساجد وأبنية لا يوجد مثلها فى العالم. ما الحال لو أن ابن بطوطة زار مصر الآن؟ ماذا كان سيقول؟
..............
لكن لماذا لا يوجد الآن حسن عبد الوهاب آخر، لم يحصل على شهادة ومع ذلك كان حجة بالنسبة للآثار الإسلامية، لا يمكن إغفاله عن أن يكون عضواً في أى لجنة للآثار الإسلامية. لماذا تضيع الحدود بين المسئوليات والجهات المختلفة؟ مثلاً قرار تتخذه اضطراراً جهة ما مخفية خطأ ما، يترتب عليه الخطأ والخطأ يترتب عليه خطأ آخر إلى آخره. وفي أية محاولة لمصلحة الآثار أو بوليس السياحة لفعل لشئ تكون النتيجة عكسية، ويكون هذا الفعل بمثابة الضوء الأحمر الذى يحذر المهربين الحقيقين والتجار فيهرعون إلى حجورهم مخفين كل شئ. لماذا يتصرف الفرد منا على أنه الرجل الوحيد الذكى وأن البقية أغبياء؟ إن الجرح يدمى، وكلنا نعلم أن الآثار تنهب وتتآكل وتتهشم من «توكر» إلى «رشيد». المشكلة أننا أثرياء جدًاً في الكم الحضارى، أننا بالضبط كوريث كسول، غبى متلاف لثروة طائلة يصر على تبديدها.. تحطيمها باسم المعاصرة والتجديد. وتبقى الحسرة والفاقة ومرارة الذكرى، لما فعلته سيدة عجوز مثل خالة أمى فى صمت، وما فعله رجل قاهرى بسيط كجد «بيجو»، وما فعله رجل مثل حسن عبد الوهاب لا يحمل (الدكتورهات) الزائفة، لكنه فعل وكتب ما عجز عنه المتخصصون بعده.
الثلاثة كانوا يقظين لانتمائهم الوطنى وموقفهم الحضارى والإجتماعى. أما نحن فنغط في سبات عميق ثم نتصدى ما ليس له قيمة تذكر. ماذا كان سيقول ابن بطوطة لو زار مصر ورأى العامة يتبولون أسفل الكبارى لعدم وجود دورات المياه نهائياً حتى تأكل الأسمنت والحديد وقالوا إن كبارى القاهرة مهددة بالسقوط ، بينما كان هناك دورات مياه في كل شارع – لو رأى أيضاً القذارة والورق واعقاب السجائر تغطى الطرقات لعدم وجود سلة واحدة للمهملات بينما في الأربعينيات كانت سلة للمهملات معلقة بأعمدة النور كل عشرة أمتار. ويقال إننا بعنا تلك الأعمدة مع سور الأزبكية، بعناها لكى تكمل بها مدن أوروبا أعمدتها التى حطمها النازى بغاراته، إن سور الأزبكية كان يتتضاءل بجانبه ضخامة وجمال سور حديقة «الرينج» التى تتباهى بها فيينا. ترى أين هو سور الأزبكية الآن؟ والحجر المعصرانى الذى كان يغطى أرضية منازلها في القرون الأربعة الماضية، هناك من يصّدره إلى أمريكا لتغطية أرضيات منازل الأثرياء، كما تخلع أرضيات أزقتنا من كتل الحجر البازلت ليغطوها بأسفلت هش وتباع لتكميل أزقة وحارات المدن التى ضربها هلتر بالقنابل. وبينما أوروبا لازالت تبذل قصارى جهدها في المحافظة على مدنها كما كانت في الماضى، نحن باسم المعاصرة نخرب مدننا، وفي الثلاثينيات في أحد أعداد مجلة «كونسنس» التى لدىّ، فوجئت بأنه في مسابقة تمت في تلك السنة عن أجمل مدينة، حصلت القاهرة على الجائزة الأولى.
الحمد لله أن لا أحد أصبح يثق فيما تنشره الجرائد لدينا. ومن رأيى أن يوقف التلفزيون المصرى عرض الأفلام القديمة حتى لا يبكى المصريون على ما مضى. أتساءل سنظل نبكى ونبكى ونبكى؟ وهل فقدنا شرف القدرة على محاولة أن نتغير؟
..............
خطواتى البطيئة وأنا ذاهب إلى محل البن البرازيلى لشرب القهوة لم تمنع شخصاً أن يصدمنى وهو يحمل جهاز تسجيل تنبعث منه بصوت عال أغنية «قوم أقف وأنت بتكلمنى»، ابتسمت لأنه حتى لم يعتذر لى، قد تكون معانى الكلمات في الأغنية تحمل مدلولاً آخر، لكنها وجدت صدى عند الناس لأنها تمثل محنتهم، فالكل أصبح يشعر أن الآخر لا يحترمه.
حين وصلت إلى البن البرازيلى فوجئت بالتلفزيون يبث أغنية «قوم أقف وأنت بتكلمنى»، ما الذى جعل لمثل هذه الأغنية شيوعا؟ هل انتهت كل متاعبنا ومشاكلنا؟ هل فقدنا كل شىء؟ حتى انحسرت أمنية كل فرد في مدينة كالقاهرة –ما دامت هذه الأغنية لاقت هذا الشيوع– هل انحسرت رغبته فقط في أن يطلب احترام الآخر له؟ هل فقدنا كل شىء؟ أظن أن من السخرية أن نجعل إنساناً فقد كل شئ، ولم يعد له مطلب سوى أن يحترمه الآخر ويحافظ على آثار أجداده وهو لم يجد من يحافظ عليه.
انصرفت بخطوات متثاقلة حزينة شاعراً بأنه لم يعد لنا أمل في ان نحافظ على ماضينا أو حاضرنا حتى.
فجأة وجدت صبياً يثب كأنه مخدر بين السيارات دون خوف، ملابسه رثة جداً أصبحت لا لون لها من القذارة لكن لدهشتى وجدته يرفع ياقة جاكيتته ويرتدى نظارة قاتمة، مقلداً اعلانات البذل الجديدة أو إعلانات النظارات في واجهات المحلات، اكتملت دهشتي عندما وجدته حافى القدمين والوحل والقذارة قد كستهما كلية، لم يلبث حتى اندفع بجانبى إلى ماسح الأحذية الذى افترش الرصيف، نفث دخان سيجارته بعظمة. لم يترك فرصة للرجل بل وضع قدمه بكل جسارة وبسرعة أخرج جنيهاً أعطاه لماسح الأحذية قائلاً: «أن تدهن رجلى جلد أسود أجلاسيه». أحياناً تسبب المفاجأة بلبلة في التفكير، وقفت أتأمل هذا المنظر السريالى إذ إن «ماجريد» عاشت صورته التى رسم فيها حذاء ذا أصابع قدمين حتى الآن، لكن هذا الصبي حقق أكثر إذ جعل قدماه حذاء أسود أجلاسيه، أمنيته أن يمتلك حذاء أسود أجلاسيه. بلا شك أن الصبى من أولئك الصبية الذين لا منازل لهم، ولدوا على الرصيف وعاشوا على الرصيف واتخذوا من الشحاذة مهنة لهم وربما السرقة لكن بالتأكيد هو مثل باقى المتسولين والمشردين يدمن المخدرات. تسمرت في مكانى ناظراً إلى ماسح الأحذية الذى صبغ قدم الصبى إلى الساقين. وضع الورنيش. أخذ يتظاهر بأنه يلمعها بالفرشاة وقطعة القماش، الحيرة امتلكتنى وأنا أنظر إليهما. ألم ّ بى اليأس وتساءلت ما جدوى الكتابة؟ هل مثل هذا الصبي يعلم شيئاً عن تراثنا وآثارنا وما قيمة كل هذا بالنسبة له؟ إنه وكثيرون غيره سيشكلون المستقبل وهل ماسح الأحذية الذى امتهن نفسه وامتهن الصبى من أجل جنيه يفهم شيئاً عن التراث وعن ضرورة الحفاظ على الماضى كى يكون لنا غد لا يقل عن ماضينا، أين هو الغد؟ إذا كان هو صبغ قدمي إنسان غطتهما القذارة والوحل باللون الأسود.
لقد قلت ما فيه الكفاية الأفضل أن أصمت وأمضى في طريقى أجتر جرعة المرارة التي تملأ فمى. في تهكم مر تمتمت بكلمات خالة أمى: «من ليس له، ليس له جديد».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.