احتفالات روسيا بعيد النصر هذا العام لم تكن مجرد استعادة لذكريات وامجاد الماضى بقدر ما كانت فى شقها العسكرى تحذيرا واضحا من مغبة التطاول على مكانة ودور الدولة الروسية، فضلا عن انها كشفت مجددا عن اصرار الرئيس فلاديمير بوتين على مواجهة الارهاب فى كل صوره، بجيش قوى وارادة تقول بضرورة تكاتف الجهود من اجل اقامة نظام امنى دولى بعيدا عن التكتلات والمحاور، ومنها الناتو الذى تواصل موسكو استعداداتها لما يشكله من اخطار ضد الدولة الروسية. استبقت موسكو احتفالاتها بعيد النصر بسلسلة من التصريحات والخطوات التى تؤكد اصرارها على مواجهة تصعيد الناتو لنشاطه على مقربة من حدودها الغربية والجنوبية، فيما اعقبتها بتصريحات الرئيس بوتين التى كشف فيها عن استعدادات بلاده للتصدى لنشر عناصر الدرع الصاروخية الامريكية. ومن هذا المنظور كان من الطبيعى ان تستعرض موسكو الكثير من احدث اسلحتها العصرية التى نجح الرئيس بوتين فى توفيرها لقواته المسلحة والتى قال انها بلغت نسبة تزيد على 47% فيما من المرتقب ان تبلغ النسبة حتى 50% مع نهاية العام الجاري. وكان بوتين اعلن عن ذلك فى معرض تعليقه على اعلان واشنطن عزمها تشغيل الدرع الصاروخية فى شرق أوروبا اعتبارا من الخميس الماضى فى قاعدة ديفيسيلو برومانيا، وهو ما اعتبرته موسكو تهديدا للاستقرار الاستراتيجى فى القارة، ووصفته وزارة الخارجية الروسية "بالأمر الضار والخاطئ من حيث أنه يهدد الاستقرار الاستراتيجى فى المنطقة وأمن روسيا ومصالحها". ونقلت وكالة "سبوتنيك"عن ميخائيل أوليانوف مدير قسم شئون عدم الانتشار والرقابة على الأسلحة فى وزارة الخارجية الروسية ما اعرب عنه من قلق تجاه "أن أنظمة إطلاق الصواريخ العمودية "مارك-41" التى تم نشرها فى الأراضى الرومانية استخدمت سابقا لإطلاق الصواريخ المتوسطة المدى من سفن أمريكية عسكرية، ما يعنى أن هذه النظم قادرة على إطلاق الصواريخ المجنحة وليس فقط الصواريخ المضادة. وقال اوليانوف "أن مثل هذا النشر يخالف معاهدة إزالة الصورايخ القصيرة والمتوسطة المدى، الموقعة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى فى العام 1987". وقد حاولت المصادر الامريكية تكرار ما سبق وقالته حول "ان نشر عناصر الدرع الصاروخية الامريكية على مقربة من الحدود الروسية لا تستهدف روسيا، وانها لا تبتغى سوى توفير الحماية الكاملة لشركاء الناتو فى أوروبا من التهديد الباليستى المتزايد"، فى إشارة إلى الملف الإيرانى وبحجة أن "إيران تواصل تطوير الصواريخ الباليستية واختباراتها للصواريخ البعيدة المدى ما يمكنها من بلوغ أراضى البلدان الأعضاء فى الناتو"، حسب تصريحات ويل ستيفنس، المتحدث الرسمى باسم السفارة الأمريكية فى موسكو. ازاء ذلك سارعت موسكو باعلان عدم صحة ما وصفته بالمزاعم الامريكية التى رد عليها مدير قسم شئون عدم الانتشار والرقابة على الأسلحة فى وزارة الخارجية الروسية بقوله أن "هذه الخطوات لا علاقة لها بما يقال عن تهديد صاروخى من قبل إيران، إذ أن مسألة ملف إيران النووى قد تم تسويتها، وهو ما يؤكد أن التصريحات الأمريكية السابقة بهذا الخصوص لا تتوافق مع الواقع". ولم تكن موسكو لتكتفى بطبيعة الحال بمجرد التصريحات ، حيث سرعان ما كشفت عن "أن الصناعة الحربية الروسية تعمل على تطوير أنواع جديدة من الصواريخ الباليستية ستكون قادرة على اختراق الدرع الصاروخية الأمريكية". وكشف الجنرال سيرجى كاراكايف قائد قوات الصواريخ الاستراتيجية الروسية عن أن المخاطر التى تشكلها الدرع الصاروخية الأمريكية فى أوروبا تبقى محدودة ولا تحد فى الوقت الراهن من قدرات قوات الصواريخ الاستراتيجية الروسية بشكل ملموس. وفيما حاولت بعض الدوائر الخارجية اتهام روسيا الرسمية بانها بصدد احتمالات الانزلاق الى جولات جديدة من سباق التسلح ، اوضح الرئيس بوتين ان ما يجرى ياتى فى اطار تعديل موسكو لخططها بشأن إعادة تسليح الجيش بما يتناسب مع مستوى الخطر، مؤكدا "ان روسيا لن تنزلق الى مثل هذا السباق وانها ستواصل مسيرتها، فى اطار من الحذر الشديد". ومضى بوتين ليكشف فى لقائه مع عدد من كبار قيادات القوات المسلحة عن "أن روسيا لا تنوى تجاوز مستوى الإنفاق المخطط له على إعادة تسليح الجيش والأسطول، لكنها ستعدل خططها فى هذا المجالات التى أقرتها منذ سنوات عدة، من أجل وقف المخاطر الناشئة على أمن الدولة"، بما يعنى عدم اقتناعه بما تقوله واشنطن بشان الطابع الدفاعى لدرعها الصاروخية. واكد بوتين مدى يقينه من ان الدرع الصاروخية الامريكية جزء من القدرات الاستراتيجية النووية للولايات المتحدة فى بلدان أوروبا الشرقية. كما اعلن عن تحذيراته للمسئولين فى هذه البلدان من مغبة موافقتهم على نشرها فى اراضى بلادهم بقوله:" عليكم أن تتذكروا أنكم عشتم حتى اليوم فى هدوء وأمان، أما الآن وبعد نشر عناصر الدرع الصاروخية فى بلدانكم، فإننا فى روسيا سنضطر للتفكير فى سبل وقف المخاطر التى تنشأ وتهدد أمن الاتحاد الروسي". وأوضح بوتين أن منصات الإطلاق، التى من المقرر نشرها فى مجمع الدرع الصاروخية فى بولندا، مؤهلة لإطلاق صواريخ متوسطة وقصيرة المدى، ويمكن أن يتم نشر مثل هذه الصواريخ خلال فترة قصيرة جدا وبصورة خفية. وشدد قائلا: "ليس باستطاعتنا الاكتفاء بمتابعة هذا الوضع، وهو يمثل خطرا إضافيا على أمننا"، وهو ما يتابعه المراقبون فى العاصمة الروسية وخارجها من خلال رصد ما تكشف عنه موسكو من معلومات حول تصميم صواريخ باليستية جديدة ستدخل فى قوام درعها الصاروخية المستقبلية، قالوا انها تعمل بالوقود الصلب خصيصا للجيل الجديد من الغواصات الذرية الروسية. وعلى صعيد مواجهة توسع الناتو على مقربة من الحدود الشرقية والجنوبية للدولة الروسية اعلنت موسكو عن خطتها بشأن "تشكيل فرقتين جديدتين فى المنطقة العسكرية الغربية، وفرقة واحدة فى المنطقة العسكرية الجنوبية قبل انتهاء العام الجاري". وكشف سيرجى شويجو وزير الدفاع الروسى عن "البدء فى تهيئة الظروف المناسبة لنشر وحدات التشكيلات العسكرية الجديدة، واعداد البنية التحتية، استنادا الى احدث التكنولوجيات المتقدمة التى تسمح بإنشاء بنيات ميدانية للفرقة فى غضون شهر واحد، وهى البنيات التى يمكن تفكيكها ونقلها فيما بعد إلى أى موقع آخر". كما اعلن الوزير الروسى انه اصدر تعليماته الى قيادات الجيش الروسى بشأن إعداد القوات المسلحة لمناورات القيادة والأركان " القوقاز – 2016" المقرر إجراؤها فى منطقتى شمال القوقاز والقرم فى سبتمبر المقبل بمشاركة وحدات المنطقة العسكرية الجنوبية للجيش الروسي. ويذكر المراقبون ان المناورات السابقة الواسعة النطاق فى السنوات القليلة الماضية كانت مقدمة لسلسة من التحركات الروسية التى اسفرت عن تحول فى ميزان القوى فى الساحتين الاقليمية والدولية، وهو ما اكد فعاليته وقيمته خلال عمليتى "ضم القرم"، ودخول القوات الروسية ساحة العمليات العسكرية فى سوريا باستخدام احدث مفردات ترسانتها العسكرية، انطلاقا من مواقع لم تكن تخطر على بال الكثيرين من المراقبين مثلما حدث خلال استخدام السفن الحربية فى بحر قزوين فى اطلاق صواريخها الاستراتيجية بعيدة المدى. وكان بوتين اعلن صراحة خلال لقائه مع نشطاء "الجبهة الشعبية لعموم روسيا" التى كان وراء تاسيسها فى عام 2011:" "هناك بعض الخطوط الحمراء التى ينبغى علينا عدم تجاوزها، لكننا لن نسمح ايضا بتجاوز تلك الخطوط الحمراء ضدنا من قبل الاخرين، وهو ما اوضحناه منذ فترة ليست بالبعيدة" ، فى تلميح يرقى لحد التصريح الى رفضه لكل مخططات واشنطن الرامية الى النيل من امن بلاده. ويذكر المراقبون ان الرئيس الروسى سبق واطلق تحذيرات مماثلة منذ اعلان الولاياتالمتحدة بشكل أحادى عن خروجها من اتفاقية الحد من منظومات الدفاع الصاروخية. وفيما اعتبر بعض المراقبين هذا القرار بمثابة الخطوة الاولى على طريق محاولات زعزعة التوازن الاستراتيجى للقوى فى العالم، يرى آخرون ان قرار نشر عناصر الدرع الصاروخية فى أوروبا تهديد مباشر لنظام الأمن الدولي، من منظور انتهاكها لاتفاقية الحد من الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، وهو ما تقول موسكو بضرورة وضعه فى الاعتبار من اجل استخلاص الاستنتاجات الصحيحة من كل هذه التطورات.