لم تكن العلاقات الروسية الأمريكية يومًا جيدة، فعلى الرغم من تعاون الطرفين في عدة قضايا وأزمات أهمها الأزمة السورية، إلا أن توتر العلاقات بينهما وعدم وجود تفاهمات مشتركة دائمًا ما تحول دون تعاون الطرفين، فمن اختلاف رؤية الطرفين حول الأزمة السورية ينتقل الخلاف سريعًا إلى أوروبا الشرقية، لتتصاعد لهجة الطرفين مجددًا. تصعيد أمريكي في أوروبا دشن أمين عام حلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، مجمعًا تابعًا للدرع الصاروخية العالمية في رومانيا، وحضر مجموعة من المسؤولين الرومانيين والأمريكيين وممثلي حلف الناتو المراسم التي جرت أمس في قاعدة ديفيسيلو برومانيا؛ للإعلان عن دخول مجمع "إيجيس" للدفاع الصاروخي الأمريكي حالة الاستعداد العملياتي، ويتولى الناتو رسميًّا مسؤولية إدارة عناصر الدفاع الصاروخي في أوروبا، كما تعتزم واشنطن تهيئة المنشأ الثاني من منظومة "إيجيس" بالقرب من بلدة ريدزيكوفو شمال بولندا، والذي سيدخل حيز الخدمة في 2018. تزامنت هذه التحركات الأمريكية مع انطلاق مناورات عسكرية جورجية أمريكية تحت اسم "نوبل بارتنر 2016" أو "الشريك الجدير"، والتي بدأت الأربعاء الماضي، وتستمر حتى 26 مايو الجاري، ويشارك في هذه المناورات 1300 عسكري، منهم 600 أمريكي و500 جورجي والبقية أوروبيون. قلق وتهديد روسيان الخطوات الأمريكية المتلاحقة أثارت حفيظة روسيا، التي اعتبرت نشر الدرع الصاروخية في شرق أوروبا تهديدًا للاستقرار الاستراتيجي في القارة، ووصف مدير قسم شؤون عدم الانتشار والرقابة على الأسلحة في وزارة الخارجية الروسية، ميخائيل أوليانوف، تشغيل الدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا بالأمر الضار والخاطئ، من حيث إنه يهدد الاستقرار الاستراتيجي في المنطقة وأمن روسيا ومصالحها. وقال أوليانوف: من دواعي القلق أيضًا أن أنظمة إطلاق الصواريخ العمودية (مارك-41) التي تم نشرها في الأراضي الرومانية استخدمت سابقًا لإطلاق الصواريخ المتوسطة المدى من سفن أمريكية عسكرية، ما يعني أن هذه النظم قادرة على إطلاق الصواريخ المجنحة وليست فقط الصواريخ المضادة. وشدد الدبلوماسي الروسي على أن مثل هذا النشر يخالف معاهدة إزالة الصورايخ القصيرة والمتوسطة المدى، الموقعة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي في عام 1987. وفي ذات الإطار قال رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي، فيكتور اوزيروف، إن انسحاب روسيا من معاهدة تقليص الأسلحة الهجومية الاستراتيجية "ستارت" ردًّا على نشر درع جديد من المنظومات المضادة للصواريخ في أوروبا الشرقية، لا يمكن استبعاده، وأضاف أوزيروف: هذا يُعد ملاذًا أخيرًا، وآمل ألا يصل الأمر إليه. تبرير أمريكي التحفظ الروسي اعتبرته السفارة الأمريكية تهديدًا، حيث قال المتحدث الرسمي باسم السفارة الأمريكية لدى موسكو، ويل ستيفنس، إنه لن يتم نشر الصواريخ الهجومية في هذه المنظومات والصواريخ الاعتراضية، ولن يتم تزويدها برؤوس حربية متفجرة، وأضاف ستيفنس، في محاولة لطمأنة موسكو، أن منظومة الدرع الصاروخية التي ننشرها في أوروبا لا تستهدف روسيا، ولن تقوض قدراتها الاستراتيجية، أما من ناحية الجغرافيا والفيزياء، فمن المستحيل إسقاط صاروخ روسي عابر للقارات من أماكن في بولندا أو رومانيا، وروسيا تدرك الأمر، أما التهديدات الروسية للحليفين الولاياتالمتحدة وحلف الناتو بسبب دعمهما لمنظومة الدرع الصاروخية، فهي غير مقبولة وغير مسؤولة. في ذات الشأن اعتبر المتحدث الرسمي باسم السفارة الأمريكية لدى موسكو، أن نشر منظومة الدفاع ضد الصواريخ في رومانيا وبولندا يتوافق مع معاهدة إزالة الصورايخ القصيرة والمتوسطة المدى تمام التوافق، وأضاف أن الهدف من نشر المنظومة توفير الحماية الكاملة لشركاء الناتو في أوروبا من التهديد الباليستي المتزايد، وذلك في إشارة إلى أن إيران تواصل تطوير الصواريخ الباليستية واختبارها الصواريخ البعيدة المدى؛ ما يمكنها من بلوغ أراضي البلدان الأعضاء في الناتو. إيران.. لم تعد الفزاعة الملائمة تؤكد واشنطن أن خطوة نشر الدرع الصاروخية في أوروبا ضرورية لضمان أمنها وأمن حلفائها الأوروبيين من الدول العدوانية مثل إيران، لكن هذه الحجج الواهية لم تعد روسيا تستطيع تصديقها، حيث قال الناطق الصحفي باسم الرئيس الروسي، دميتري بيسكوف، إن الأمريكيين في البداية كانوا يبررون قرار نشر الدرع الصاروخية بوجود خطر صاروخي مصدره إيران، لكن الوضع حول الملف الإيراني تغير جذريًّا بعد عقد الاتفاق النووي في يوليو الماضي، فيما لم يتغير الوضع حول نشر الدرع الصاروخية في أوروبا على الإطلاق. مخاوف روسية رغم رسائل الطمأنة التي تحاول الولاياتالمتحدة إرسالها إلى روسيا، إلا أن الأخيرة لا تثق في الوعود الأمريكية نهائيًّا، وهو ما جعلها تعتبر أن الهدف الحقيقي للدرع الصاروخي هو تحييد الترسانة النووية لموسكو، وتعزيز الدعم العسكري لأعضاء حلف شمال الأطلسي من دول شرق أوروبا، خاصة بعدما وعد الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، في عام 2014، بدعم الأعضاء الشرقيين في الحلف الذين أقلقهم ضم روسيا لشبه جزيرة القرم من أوكرانيا. رسالة عسكرية روسية المخاوف الروسية دفعتها إلى الإعلان عن أن الصناعة الحربية الروسية تطور أنواعًا جديدة من الصواريخ الباليستية، ستكون قادرة على اختراق الدرع الصاروخية الأمريكية، وهو ما شكل رسالة سياسية وعسكرية إلى واشنطن التي تحاول تعزيز قوة حلف الناتو في أوروبا. جاء الإعلان الروسي بعد فترة قصيرة من الإعلان الأمريكي، حيث قال قائد قوات الصواريخ الاستراتيجية الروسية الجنرال، سيرغي كاراكايف، إن المنظومات الروسية الجديدة للصواريخ تمتاز بقدرات موسعة لاختراق الدرع الصاروخية الحالية التابعة للولايات المتحدة والمنظومة المستقبلية التي تسعى واشنطن لتطويرها، وأوضح أن الصناعة الحربية الروسية تحقق هذا الهدف عن طريق تقليص المسافة الضرورية لتسارع الصاروخ، وبفضل تزويده برؤوس قتالية جديدة من الصعب التنبؤ بمسار تحليقها، واختراع سبل جديدة لاختراق الدروع الصاروخية، موضحًا أن ذلك بسبب عدم توقف واشنطن عند ما حققته، بل تواصل تطوير منظومتها المضادة للصواريخ، وتنشر في إطار هذه الجهود بعض عناصر المنظومة في أوروبا. الدرع الصاروخية.. مثار خلافات قديمة الدرع الصاروخية التي تعتزم واشنطن نشرها في رومانيا، لم تكن الأولى التي تُحدِث خلافات بين الولاياتالمتحدة وحلفائها الأوروبيين من جهة، وروسيا من جهة أخرى، حيث تنطلق أمريكا في استراتيجية نشر الأنظمة الدفاعية الصاروخية على طول الحدود الروسية الدولية، غير عابئة بالمصالح الاستراتيجية الروسية ولا باحتجاجاتها من انتهاك واشنطن للمواثيق والمعاهدات الموقعة بين الطرفين بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991. سبق أن هدد الرئيس الروسى السابق، ديمترى ميدفيديف، فى لهجة غير عادية خلال نوفمبر عام 2011، بنشر منظومة صواريخ هجومية على الحدود مع أوروبا، ردًّا على إطلاق هذا المشروع الأمريكي، وذلك بعد فشل محاولات التوصل إلى تفاهم مشترك حول الدفاع الصاروخى، حيث تجاهلت واشنطن طلب موسكو كتابة ضمان قانوني بأن منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية فى أوروبا لا تستهدف روسيا، كما هدد الرئيس الروسي حينها بالانسحاب من معاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية "ستارت" الموقعة بين موسكووواشنطن.