لا شك أن الارتقاء بمستوى الحياة على المستوى الإنسانى هو الارتقاء الحقيقى الذى يجعل لها معنى، وهو الذى يرفع من شأن صاحبه ويعلى قيمته ويدفعه إلى النفع لنفسه وللآخرين الذين هم إخوة له فى الإنسانية، أما الارتقاء على المستوى المادى بما فيه من طمع الدنيا وتغليب المصالح الذاتية الضيقة على المصالح العامة وإغفال العوامل الإنسانية والقواعد الأخلاقية والحدود الدينية فهذا كله هو الضياع والخسران المبين، وهو كمن يسير عكس الاتجاه. إن الأساس فى الخلق للنفوس البشرية هو التراحم والتلاحم والتواصل، وليس التشاحن والتباعد والخلافات، وإذا كان هَمْ الإنسان الأول هو اقتناص الفرص والقفز على أجساد العباد والانتهازية والتملق والرياء من أجل اعتلاء مناصب ومكاسب مادية، أقول إذا سيطرت هذه الصفات على عقل وقلب الإنسان، فليعلم أن العائد من وراء ذلك هو السراب والضياع، وهو أشبه بالصعود إلى أسفل، وإن خسارة النفس لا تنفع ولا تجدى حتى ولو كسب الإنسان العالم كله.. فشىء من الوضوح ومكاشفة النفس والصدق، هو الذى يكبح جماح شهوة المادة والمناصب وطمع الدنيا، ولا شك أن الصدق مع النفس هو أعلى درجات النضج والسلامة النفسية والتوازن والمواءمة بين الحقوق والواجبات، والطمع والطموح، والقول والفعل، والحق والباطل، والأنانية الذاتية والإيثار، والتواضع واحترام الذات، وكل هذه التوازنات تعكس مدى وعى الفرد وقدرته على ضبط ايقاع حياته وتفاعله مع مجريات أمور هذه الحياة. وإذا حدث خلل فى ضبط هذه التوازنات، فهذا يعنى خراب النفس وإصابتها بحالة العطب والعلل النفسية، بما فيها من حقد وغل وأنانية وطمع وعدوانية وشر وكراهية وغدر وخيانة. ويتساءل الناس عن سبب أمراض القلوب وعذاب النفوس فى عالم الطغيان المادى الذى نعيشه، والجواب هو غياب الإدراك والوعى السليم بكيفية التدريب على الحفاظ بحالة التوازن سالفة الذكر، فالحياة ليست صراعا على المصالح، وإنما يجب أن تكون سعيا مشتركا من أجل مصالح مشتركة بين الناس، وأن يكون توزيع الأدوار فيها قائما على العدل والمساواة وتبادل المنافع وليس على الهيمنة والسيطرة وانتهازية المكاسب المادية الزائفة والزائلة. إن عطب النفوس يصعب تداركه والبراء منه، وعمى البصيرة أشد من عمى البصر، فليحذر كل من نسى نفسه وليصحح مسيرته ويضع نفسه على الطريق السوى المستقيم، وليعلم أن الله بالغ أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. د. يسرى عبدالمحسن أستاذ الطب النفسى بجامعة القاهرة