بغض النظر عن الأسباب والملابسات، وبغض النظر عن المؤامرات الدولية والإقليمية فإن المشرق العربى قد خرج من موازين القوى الإقليمية لعقود قادمة، وقد خرج من العالم المعاصر ورجع قروناً إلى عصور قد خلت، ويحتاج إلى جهود جبارة، وثروات هائلة لكى يعود. فالعراق وسوريا لن يعودا إلى العالم العربى كما كانا قبل نصف قرن من الآن على الأقل، وكذلك الحال بالنسبة لليمن وليبيا، أما باقى دول المشرق العربي، وجزء من شمال إفريقيا فقد طالتها أدخنة الحرائق؛ بل ومسها من شررها الكثير، فلبنان على سبيل المثال رسمت المأساة السورية على وجهه وشمها المنحوس، والسودان ضاع مع أوهام التمكين التى جاء بها انقلاب 1989، أما مصر فصامدة بحكم ثقلها التاريخى وطبيعتها النادرة ومؤسساتها الراسخة.لقد نجح مهندسو الفوضى الخلاقة فى تحقيق طموحاتهم بأيدينا، وعلى حسابنا وبأموالنا، وبدماء شبابنا، وللأسف حققنا أحلامهم بمزاج وعقلية القرامطة والحشاشين، واعتبرنا أحلامهم أحلامنا، وطموحاتهم طموحاتنا، وهذا هو التعريف العلمى لمفهوم القوة السياسية؛ التى تعنى «القدرة على أن تجعل الآخرين يحققون ما تريد دون أن تأمرهم بذلك» نعم كان لدى دعاة الفوضى الخلاقة من القوة السياسية ما جعلنا نفكك أوطاننا وندمر مجتمعاتنا من أجل التخلص من شخص صدام حسين، أو القذافي، أو بشار الأسد.وبعد أن تم ترتيب أوضاع العالم العربى فى المشرق، والقرن الإفريقي، وحوض النيل، بغض النظر عمن قام بهذا الترتيب، ومن كان وراءه، وبغض النظر عن الجدل العقيم حول نظرية المؤامرة التى هى من أهم نظريات صناعة المستقبل والتاريخ معاً، فإن حال العرب فى هذه المناطق الثلاث قد وصلت إلى مرحلة آمنة جداً لا تهدد أحداً، بل لا تستطيع حماية ذاتها، ولا تمتلك مقومات البقاء والاستمرار، فقد تم إضعاف العرب إلى درجة لا تحسب لهم إسرائيل إى حساب؛ لذلك عقد مجلس وزرائها اجتماعه فوق هضبة الجولان؛ لأول مرة منذ أن باعها حافظ الأسد بعد انتهاء حرب 1967، وكان رد الجامعة العربية شجبا على مستوى المندوبين، أى رفض لموقف كارثى تعلن فيه إسرائيل أنها تستولى على جزء من أرض العرب مدى الحياة.وقد تم أيضا إهدار قوة العرب حتى صارت إيران وصيا شرعيا على أكبر دولتين فى المشرق العربى هما سوريا والعراق، وتم إهانة العرب بأيديهم حتى أصبحت إثيوبيا تلعب بالخلافات بين مصر والسودان للتحكم فى مستقبل السودان ومصر، وتم تقسيم السودان وتفكيكه وخلق منطقة عازلة بين العرب وإفريقيا فى جنوب السودان، وفى جنوبالصومال أيضا، واحدة ساهم فى صناعتها مجلس الكنائس العالمي، والثانية صنعتها السلفية العالمية العمياء، وانقطع التواصل بين العرب والإسلام فى الشمال، وإخوانهم الأفارقة فى الجنوب، وتحقق الحلم البريطانى القديم. وجاء الدور على حصن الاستقرار والاستمرار المحافظ على التاريخ والحضارة، جاء الدور على المملكة المغربية، ولكن بتخطيط أخطر من كل ما سبق، تفجير داخلي، وصراع خارجى فى الوقت نفسه، تحركت مظاهرات من المتدربين على رئيس الحكومة الذى يمثل حزبا فيه من البراءة والسذاجة أكثر مما فيه من الحنكة والخبرة والكياسة، حزب دخل إلى السياسة من شبابيك العواطف والحماسة الدينية، ويحاول جاهداً أن يفتح أبواب الخبرة للأجيال القادمة، ويكفيه شرفاً أن لم يكرر أخطاء جماعته الأم؛ فلم يتصادم مع القصر؛ منبع الشرعية فى النظام المخزنى المغربي، ولم يرفع شعار الشرعية الإسلامية - التى هى عقيدته - لأنه يدرك أن القصر حارسها والمحافظ عليها، جاءت المظاهرات ضد رئيس الحكومة خصوصا تلك التى كانت فى وجدة أثناء زيارته لها، شرسة وعنيفة وخارجة عن التقاليد المغربية؛ خصوصاً محاولات الاعتداء الشخصى على رئيس الوزراء، وفى نفس الوقت تم تسخين ملف الصحراء، ودفعه بقوة إلى أعلى درجات التوتر، خصوصا ما قام به السيد الأمين العام للأمم المتحدة الذى خالف كل الأعراف الدبلوماسية، وكان أداة سهلة فى يد من يريد أن ينقل الفوضى الخلاقة إلى المغرب الأقصي، ومعه تحركت موريتانيا وبدأت فى التواصل مع النائمين فى مخيمات تندوف منذ أن تركهم فيدل كاسترو، وتجاهلتهم كوبا. وتفجير ملف الصحراء المغربية بهذه الطريقة، ودفع الشارع المغربى إلى الانفجار المطلبى فى وجه حكومة يقودها حزب ينتسب إلى التيارات الإسلامية؛ وإن كان قد تخلص من الكثير من عللها، هما إستراتيجية كهنة الفوضى الخلاقة لتدمير تجربة تنموية ناجحة، وغير مسبوقة فى العالم العربي، لم تأخذ حقها من الدراسة والبحث نظراً للأمراض العربية المتوارثة التى لا تكترث بما يحدث خارج قلب الدائرة: مصر والشام، وقد انضم إليها مؤخراً الخليج العربي، فقد استطاعت المملكة المغربية تقديم تجربة تنموية ثلاثية الأبعاد، تقوم على تنمية اقتصادية ناجحة جذبت استثمارات وصناعات عالمية كبري، ولم ينقصها إلا سياسة جذرية للقضاء على الفساد؛ الذى هو داء العرب، وصفة أصيلة فيهم. ولوقف تقدم الفوضى الخلاقة غربا فإن الأمل معلق فى حكمة القيادة الجزائرية، وحسها القومى الأصيل، وتدركه أجيال العرب المتتالية، فإنه فى يد القيادة الجزائرية وحدها وضع نهاية لهذه الهوة فى جدار الأمن والتنمية فى المغرب العربي، فتسوية ملف اللاجئين الصحراويين فى الجزائر بطريقة كريمة ينهى هذا الملف للأبد، ويقضى على العائق الأساسى الذى حال دون تقدم الاتحاد المغاربي، وأعاق التطور الطبيعى للعلاقات الجزائرية المغربية، وفى نفس الوقت على الحكومة المغربية تسوية جميع الملفات العالقة مع الجزائر الشقيق، وطى صفحة الماضى ة وإن لم تبادر الدولتان إلى التحرك السريع؛ فقد يفيق الجميع على سوريا والعراق فى المغرب العربى لا قدر الله. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف