يعد التونسي الدكتور"عبد المجيد الشرفي" من أبرز المفكرين العرب الذين ناقشوا مسألة الإسلام والحداثة وله كتاب يحمل هذا العنوان " الإسلام والحداثة " صدرت منه العديد من الطبعات . ولقد ظل مهموما بهذه المعضلة حتى كتابه الأخير الصادر في تونس بعنوان " مرجعيات الاسلام السياسي ". كما صدرت له من الهيئة العامة للكتاب في القاهرة طبعة مصرية من كتابه "الثورة والحداثة والإسلام ". وفي ديسمبر الماضي جرى انتخابه رئيسا لأرفع المؤسسات العلمية في بلاده وهي المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون المسمي "بيت الحكمة "، وذلك خلفا للمفكر "هشام جعيط". ويشغل المجمع قصرا تاريخيا في ضاحية "قرطاج" شمالي العاصمة تونس،و يعد تحفه معمارية ويعود الى القرن الثامن عشربناه جنرال بالجيش التونسي يدعى "زروق "ثم اختاره لاحقا حاكم تونس " الباي " لاقامته . ومن هذا المبنى أعلن رئيس وزراء فرنسا الأسبق "منديس فرانس" منح تونس الاستقلال الداخلي عام 1954. وشغلت هذا القصر مؤسسة الدراسات والترجمة منذ عام 1982 قبل ان يخلفها المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون اعتبارا من عام 2012. وفي " بيت الحكمة " جرى هذا الحوار : •كيف ترى وتقيم الإنتاج الفكري في تونس بعد الثورة ؟ يصعب تقييم الإنتاج الفكرى بصفة عامة لاختلاف الأمر من مجال لآخر . لكن مما لاشك فيه ان الإنتاج أوفر من حيث الكم لأنه كانت هناك قيود على النشر قبل الثورة واختفت الآن .ولذا نجد العديد من الإسهامات في الحياة الفكرية لكنها اسهامات ليست كلها استجابة للظرف الحالي بقدر ماهي مواصله لاهتمامات سبقت الثورة . ولا أعتبر شخصيا أن الثورة مثلت للانتاج الفكرى منعرجا أساسيا لأن الذين كتبوا وفكروا قبل الثورة يواصلون على نفس النسق أو ربما بنسق أفضل على صعيد الحياة الفكرية لم تتغير الأمور لكون أن هناك تغيرا في الحياة السياسية وهذا لأن زمن الفكر أبطأ من زمن السياسة . وأنا أميز دائما بين الزمنين . •وهل ظهرت كتابات لافتة عن تحديث الإسلام أو أسلمة الحداثة على ضوء الحيوية السياسية البادية في البلاد ومشكلات حكم الإسلام السياسي؟ الكتب قليلة . لكن هناك مقالات عديدة . وبعض الكتب جرى نشره باللغة الفرنسية . والواضح ان الكتب المنشورة بالفرنسية في هذا المجال لها قيمة فكرية أكبر من تلك المنشورة باللغة العربية. وهذه الكتب بمثابة مواصلة لمجهود سابق على الثورة قام به مفكرون تونسيون. وآخر كتاب وصلني منذ أيام ل"ناجيه الوريمي "بعنوان :" زعامة المرأة في الإسلام المبكر ". وهذه المؤلفة لها كتب سابقة مهمة ونشرت أطروحتها للدكتواره عن الاختلاف والائتلاف في الفكر الاسلامي باللغة العربية. •مراجع ومصادر كتابك " الإسلام والحداثة " تكاد تقتصر على تلك المصرية والتونسية .. ماالذي يعنيه هذا ؟ النهضة العربية كانت في الشام . والشوام جاء الكثير منهم الى مصر. وكانت النهضة العربية بالأساس في مصر وتونس قبل البلدان العربية الأخرى. وبما ان الكتاب يؤرخ للعلاقة بين الحداثة والاسلام فهو يعود بالاساس الى البلدين اللذين تطورت فيهما هذه العلاقة. وهو أمر يعكس وضع النهضة العربية في هذا الميدان بالذات . و إذن .. لم يكن الأمر من اختياري بل كان مرآة لما هو موجود في الواقع . •تحدثت في كتابك الأخير عن الحاجة الى ثقافة جديدة .. كيف تتصور سماتها ؟ عندما نتحدث عن الثقافة فلا ينبغي ان يقتصر اهتمامنا على الانتاج الأدبي أو الفني أو السينمائي . لأن الثقافة في عصرنا هي بالأساس ثقافة علمية . والبلدان العربية بصفه عامة مازالت ثقافتها العلمية ضعيفة . وربما ضعيفة جدا . ومادامت الثقافة العلمية لم تنتشر بين أوساط واسعة فان ثقافتنا لايمكنها ان تشهد القفزة النوعية المنتظرة وذلك حتى لايكون لدينا مجرد ثقافة تجتر ماهو موجود من القديم وحسب . وأقصد بالثقافة العلمية هذه العلوم الصلبة والانسانية . فلقد تأخرنا على مستوى كافة ميادين العلم بالعصر الحديث . ولينا أن نسأل : هل نحن اليوم ندرس الظاهرة الدينية بمنهج علمي ؟ أطرح هذا السؤال . وأقول أننا متأخرون جدا في هذا الميدان . بل نحن نهتم بالظاهرة الدينية فقط من منطلق إيماني أيديولوجي . وهذا ما قصدته . فالثقافة يجب ان ترتبط بالمعرفة العلمية . وهي متأخرة في بلادنا كلها بدون استثناء . •هل ترى فرصة أمام تطور الفكر الإسلامي نحو القطع مع التخلف وماقبل الحداثة ؟ تحليلي الخاص وعلى ضوء ما هو موجود في الساحة الإسلامية هو ان الانتاج الفكري متخلف عن الممارسة الدينية . ومالاحظته هو ان الممارسة لدي المسلمين بصدد التطور لكن هذا التطور غير معترف به نظريا . بل ويشهد مقاومة وأحيانا عنيفة من الذين يعتبرون انفسهم مؤهلين دون غيرهم للحديث باسم الدين . •إذن انت تقول بأن الممارسة الدينية بسبيلها الى التطور مقابل حالة من الجمود الفكري والنظري .. كيف ؟ المؤسسة الدينية ظلت متشبثة بالحلول الموجودة في المدونات الفقهية والكلامية وهي بالتالي متخلفة عن الممارسة الدينية . ومأسسة الدين تعني بصفة عامة كل مايتعلق بتطبيق مبادئه وقيمه على أرض الواقع . ومحاولة التطبيق هذه لاتكون إلا بطريقة ممأسسة. لكن هذا التطبيق يجب ان يتغير بتغير الظروف . وهو في الماضي أصلا كان قد تغير .لكن المشكلة تظل في عدم الاعتراف بهذا التغير . وتظل مشكلتنا ان المؤسسة الدينية لم تطور فلسفة الأحكام التي تدعي انها اسلامية دون غيرها . إذن ليست المشكلة في الخطاب فقط . هي مشكلة فكرية في الحقيقة . •تحدثتم في كتابكم "مرجعيات الاسلام السياسي " أيضا عن ظاهرة "الإشباع" بالنسبة لهذا اللون من الاسلام وللتفكير المحافظ .. هل ترى اللحظة قريبة ؟ لاحظت انها قريبة في إيران . فالشباب هناك بعد الثورة الايرانية اصبح يكفر بالملالي ( رجال الدين الشيعة ) على اختلاف توجهاتهم اصلاحية كانت أو محافظة . هذا الشباب يطمح الى حياة سياسية لاصلة لها بموقف رجال الدين . أما بالنسبة للبلدان العربية فنحن في حاجة الى دراسات اجتماعية لكي نعرف حقيقة ردود الفعل عند الشباب . ولسوء الحظ هذه الدراسات منعدمة أو تكاد . فقط هناك بعض منها بالنسبة للمجتمع المغربي . وربما دراسة أو اثنتان في مصر كتقرير الحالة الدينية الذي أصدره مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام . لكن هذا السبر للوضع الديني المعيشي لم يتواصل . وإجمالا فإنني اعتبر ان ما يجرى في مجتمعاتنا الاسلامية لاينفصل عما يشهده العالم وغير منفصل عنه . •هل ثمة هشاشة للحداثة ومكتسباتها عند دولة الاستقلال أو الدولة الوطنية في عالمنا العربي.. ولنا في تونس نموذج ؟ نعم مكتسبات الحداثة هشة.وهذا بسبب أن الحداثة نفسها لاتستند الى حقائق ثابتة نهائية .وبقدر ماهي بناء متواصل . ولذلك فان هذا البناء يتطلب دائما وباستمرار ان تتم رعايته ودعمه . الحداثة نسبية وبشرية . بينما كل ما يستند الى الحقائق الدينية أو الغيبية هو مطلق، ويدعى انه صالح لكل زمان ومكان. •متى يصبح العرب منتجون للحداثة لامجرد مستهلكين لمنتجاتها التقنية ؟ سؤال تصعب الاجابة عليه . وهذا لأن العرب يمرون بفترة من أسوأ فترات تاريخهم المعاصر . وهي فترة إما أن تؤدي الى انخراط في مقتضيات الحداثة أو لاقدر الله الى خروجهم النهائي من التاريخ . والله اعلم كيف ستتطور الأمور ؟ لكن نحن نعيش هذا المخاض . وانطباعي انه مخاض عسير. وأنا متفائل . لكن ما يدعو الى التشاؤم موجود كذلك. وربما تكون بداية الانتقال من الوضع المزري الحالي عندما تنفد الثروة النفطية الحالية والتي اري انها كانت نقمة على العرب والمسلمين . •بماذا تفسر هذه الأعداد الكبيرة من شباب تونس الذين ذهبوا ليقاتلون تحت راية "داعش "؟ هناك أكثر من سبب . لدينا السبب الاقتصادي بالطبع . لكنه ليس كافيا في حد ذاته للتفسير .وهو بالقطع عامل من العوامل . وتحليلي الخاص أن هؤلاء الشباب هم أعداء التحديث لأنهم من ضحايا التحديث المنقوص . هم لم يستفيدوا من مكتسبات الحداثة . ورأوا منها القشور وكذلك الظلم . رأوا منها الاستغلال و الاستعمار في وجه جديد. وكل هذا دفعهم الى ان يرفضوا ما في هذه الحداثة المنقوصة من خير وشر معا والى ان يرتموا في أحضان وهم استعادة أمجاد الماضي أو الدخول الى الجنة . •هناك من يقول ان فكر وممارسات "داعش" تعكس ما في تاريخ الاسلام نفسه من عنف وقسوة ؟ نعم ولا .. نعم لأن هناك بعض الحركات في التاريخ الاسلامي كانت تمارس سلوكا شبيها بداعش ، مثل حركة " الحشاشين ". ولا لأن ماتفعله داعش بعيد جدا عن سلوك عامة المسلمين لهذا فهو محل شجب من الضمير الإسلامي العام .والمسلم العادي لا يرضى بقطع الرؤوس والتنكيل بالمخالفين وتطبيق أحكام ما أنزل الله بها من سلطان . •هل ترى ان داعش ستنتهي فكريا سريعا؟ أتصور ان هذه الحركات سواء القاعدة أو داعش الى زوال لكن زوالها لن يكون إلا إذا تمخض الوضع الحالي في البلدان العربية عن تحسن في احوالها السياسية والاقتصادية والفكرية في الآن نفسه . وأقصد بالخصوص إذا ما انتقل النظام التعليمي من التلقين ونشر الجهل الى تكوين الشخصية الواثقة من نفسها والواعية بمواطنتها وبما لهذه المواطنة من حقوق وواجبات . •وهل ترى ان معالجة مشكلة الحكم في الإسلام هي الحل ؟ الديمقراطية ما هي إلا أحد أوجه هذه القضية . وبالطبع اذا ماكان الحكم عشائريا أو استبداديا ولا يسمح للمواطنين بالاسهام في الحياة السياسية وبالعناية بالشأن العام سنبقي في نفس المأزق الذي تعاني منه مجتمعاتنا عبر التاريخ. مأزق الاستبداد. لكننا بصدد التطور وما كان مقبولا من قبل وفي القديم لم يعد مقبولا الآن .