خمس سنوات تمر على الثورة التونسية .وفى هذا التحقيق محاولة لرصد ملامح المستجدات التى طرأت على المشهد الثقافى فى بلد منح العالمين العربى والإسلامى أول دستور عام 1860, واشتهر بالاجتهادات التنويرية فى تفسير القرآن وفهم الإسلام, وأيضا بالاهتمام بالتعليم وبالحداثة . ولا أدل على أصداء الثقافة التونسية فى المشرق العربى من ان المفكر المصرى الراحل "غالى شكري" ألف كتابا صدر عام 1986 بعنوان " الثقافة العربية فى تونس ". ونبدأ هذا التحقيق من مبنى المكتبة الوطنية بالعاصمة تونس والتى تضم 41 ألف مخطوطا, وهى مقصد للباحثين والقراء من مختلف أنحاء البلاد, بل والمنطقة المغاربية بأسرها . وتتولى منصب مديرة المكتبة الآن الدكتورة "رجاء بن سلامة", وهو أمر فى حد ذاته لم يكن بالإمكان تصوره قبل الثورة, حيث اشتهرت بمعارضتها لنظام "بن على". وقد عاشت"بن سلامة" فترة طويلة خارج تونس أمضت سنوات منها بالقاهرة . وتقول "بن سلامة" أن أول ملمح للثقافة التونسية على مدى السنوات الخمس التى تلت الثورة هو الاستفادة من حرية التعبير والتنظيم . وتوضح :" أصبح لدينا العديد من الجمعيات الأهلية العاملة فى حقل الثقافة . صحيح أن الكثير منها بلا فعالية . لكن هناك جمعيات مهمة مثل ( أوان ) و( فنى حياتى ) .وهذه الجمعيات دافعت عن مكتسب حرية التعبير فى بداية حكم الترويكا بقيادة حزب النهضة الاسلامى ". أما الملمح الثانى برأى "بن سلامة", فيتمثل فى ان الشباب عوض استمرار غيابه الملحوظ على الساحة السياسية بحضور لافت فى الثقافة والفن . وصحب هذا ثراء فى ابتداع أشكال جديدة من فنون الشارع والمقاهى والأماكن العامة الأخرى . والملمح الثالث هو طغيان الطابع العلمانى على المشهد الثقافي. وتوضح قائلة :" كأن هناك تقاسم أدوار . فهناك إسلاميون يهتمون بالعمل الخيرى والديني, فيما بقى مجال الإبداع بعيدا عنهم . بل أن العديد من التعبيرات الثقافية والفنية كانت وظلت موجهة بالأساس ضد الأصوليين والثقافة السلفية الدينية. وحقيقة فإن الثقافة فى تونس أكدت دائماً على طابعها العلماني, مع استمرار الصراع التاريخى هنا بين العلمانيين المجددين والإسلاميين المحافظين . وفى الإجمال اتضح انه ليس لدى الإسلاميين نخبة ثقافية معتبرة . فلو أحصينا عدد المثقفين الإسلاميين التوانسة لما تجاوزوا عدد أصابع اليد الواحدة ". وعلى مدى السنوات التالية للثورة, اكتسب معرض تونس الدولى للكتاب أهمية خاصة. ورغم بعض الارتباك فى توقيتات الانعقاد, فإن إلغاء الرقابة واختفاء الأجواء البوليسية أنعش المعرض . ويؤكد الدكتور "العادل خضر", مدير المعرض والأكاديمى المتخصص فى الآداب والنظريات النقدية, أن البعد الثقافى لم يكن منعزلا عن السياسى خلال السنوات الخمس الماضية . ويوضح قائلا :" المناخ الديموقراطى أدى الى ظهور اصوات فكرية وابداعية متنوعة وجديدة وأجيال شابة من المبدعين . صحيح ان بعضها كان موجودا من قبل . لكن على استحياء . ولقد ظهر نوع من الكتابات فى الرواية والسيرة الذاتية والمذكرات ينطوى على محاسبة عسيرة للماضى بما فى ذلك البورقيبى ". ويضيف خضر:" فى البدايات بعد الثورة سادت نظرة رومانتيكية تتغنى بها. وبعد عام, ومع تولى حزب النهضة الحكم, تغيرت الأمور جراء عدة اعتداءات على المبدعين وتهديد حرية التعبير والإبداع . وهكذا حل إحساس بأن الثورة تم السطو عليها, ولاحظنا إعادة الاعتبار لبورقيبة بوصفه رمزا للحداثة التونسية ". " العادل " يرصد طفرة فى الرواية التونسية على ضوء أعمال كتاب جدد مثل كمال الرياحى وشكرى المبخوت وأيمن الدبوسى وحسين الواد. ويشير الى "حركة نص" الشعرية التى تنادى بكتابة جديدة خارج القوالب السائدة, فضلا عن جماعة " دى كامرون " التى أسست ورشة لكتابة الرواية . كل هذه التعبيرات الجديدة ينهض بها الشباب . لكنه ينبه إلى طغيان الكتابة السياسية على إنتاج الأعمال الفكرية . ويقول بعبارة موجزة :" شخصيا لم يلفت نظرى كتاب جديد ذى قيمة فكرية خلال السنوات الخمس الماضية "، ومع هذا فإنه ينوه الى رواج كتب فكرية كانت قد صدرت طبعاتها الأولى قبل الثورة: ليوسف الصديق وألفة يوسف والصافى سعيد,علما بأن الأخير يغلب على إنتاجه الفكر السياسى . ويميز الكاتب والأكاديمى المتخصص فى علم الجمال الدكتور "عبد الحليم المسعودي", فى رصده لتحولات المشهد الثقافي, بين ثقافة رسمية كانت طاغية قبل الثورة ومازال يغلب عليها النمطية, وأخرى احتجاجية ظلت تطالب بالحريات . ويقول إن الحركة المسرحية أهم المجالات التى تعكس ومازالت النوع الأخير من الثقافة غير الرسمية . ويؤكد "المسعودى" أن المكسب الأساسى للثقافة التونسية بعد الثورة هو حرية التعبير فى جميع مجالات الإبداع, بما فى ذلك الإعلام . لكنه يشير الى تعرض هذا المكتسب الى التهديد من جانب الإسلاميين . ويشير " المسعودى " إلى ظهور إبداعات شبابية جديدة فى مختلف المجالات, وبخاصة فى المسرح وموسيقى وأغانى "الراب " والسينما. ويشدد على مولد موجة جديدة من الكتابة الروائية . ويضيف إلى الأسماء السابق ذكرها "توفيق بن بريك" الذى يكتب بالعامية والفرنسية . ويقول: "هناك جرأة أكثر وانتساب أكبر للمحلية التونسية, واعتناء بالحياة الخاصة الفردانية للتونسيين ". لكنه يرى فى الوقت نفسه أن حركة نشر الكتاب التى انتعشت فى تونس بعد الثورة ( انظر التقرير المنشور فى الأهرام حركة نشر الكتاب تنتعش فى تونس بتاريخ 15 فبراير 2015 ) كشفت عن أن التونسيين أخذوا ينشرون أكثر باللغة العربية وأن الجيل الفرانكفونى بدأ ينسحب من المشهد . ويؤكد "المسعودي" ما ذهب اليه " خضر " بشأن فقر الإنتاج الفكرى . لكنه يضيف قائلا:" هناك تأكيد لقيمة أسماء مفكرين عدة كان الإعلام لايحتفى بإنتاجهم . ولعل الاستثناء هنا (فى مسألة فقر العطاء الفكرى الجديد) هو ظهور فيلسوف شاب يدعى فتحى المسكينى ". ولكن هل اختلفت علاقة وزارة الثقافة بالمثقفين فى تونس بعد الثورة ؟. هنا يجيب "المسعودي" قائلا :" الوزارة جهاز قديم مثقل بالبيروقراطية. ولقد أثبتت سنوات ما بعد الثورة أن الثقافة والإبداع هما ظاهرة تحدث خارج وزارة الثقافة, مع تصاعد دور المبادرات الفردية والقطاع الخاص . لكن لاشك أن الطابع الدعائى السياسى لوزارة الثقافة قد انتهى تماما بعد الثورة ". والسؤال نفسه أجاب عنه «خضر» قائلا : «التحولات فى مجال الثقافة العامة بطيئة ومتعثرة, ولا يمكننا توقع تغيير كبير فى خمس سنوات فى علاقة وزراة الثقافة بالمثقفين . فقط علينا أن نرصد أن ميزانية الوزراة أصبحت أقل. وهذا له تأثيره على قدرتها على الإنتاج الثقافي, سواء نشر الكتاب أوإنتاج المسرحيات والأفلام.وأيضا اختفت وجوه كانت تحتكر منابر الدولة وتتمتع بامتيازاتها لسنوات طوال . وظهرت بالطبع وجوه جديدة . لكن لا أظن أن العلاقة قد تغيرت كثيرا ". ومن جانبها ترى "رجاء بن سلامة " أن وزارة الثقافة لديها استراتيجية تقوم على الربط بين الثقافة والتربية والسياحة. وتضيف: "فى العام الأخير تم التركيز على الشباب من أجل تحصينه ضد الإرهاب. وفى هذا السياق هناك برنامج ( مبدعون من أجل الحياة ) الذى يجوب المدن والقرى . وهناك محاولة جادة من اجل اللامركزية الثقافية والتلقائية والتحرر من قيود البيروقراطية ". لكن "المسعودى " يرى أن الثقافة فى تونس ما زالت محصورة فى العاصمة. ويقول :" اللامركزية شعار يتردد بقوة بعد الثورة لكنه غير ممكن التنفيذ لغياب البنية التحتية للثقافة من مسارح ودور سينما ونشر ومكتبات عمومية خارج العاصمة ". ويرى أن تونس بحاجة الى مشروع ثقافى يساند أهداف الثورة من حرية وكرامة. لكنه سرعان ما يضيف: "لا الوزارة قادرة بعد على بلورة هذا المشروع ولا نخب الثقافة بدورها استطاعت تقديم تصور له ". ومن يتردد على تونس بعد ثورتها يلحظ اهتماما طاغيا بين المواطنين بمتابعة البرامج التليفزيونية. وهذا إلى الحد الذى يدفع للاعتقاد بأنها أصبحت تحتل موقعا متقدما ومهيمنا فى إعادة صياغة الثقافة العامة . ويقول الكاتب الصحفى الدكتور "خميس الخياطي" المتخصص فى الشأن السمعى والبصرى وصاحب كتاب " تسريب النمل: الخطاب السلفى فى الفضائيات العربية ": "كان المشهد السمعي-البصرى التونسى قبل الثورة، كما فى غالبية البلدان العربية، يتسم بعنصرين, وهناك علاقة عضوية بينهما. يتمثل العنصر الأول فى تمركز قرار إنشاء قنوات تليفزيونية بين أيدى السلطة الحاكمة التى لا تنظر للأمر من وجهة الخدمة العامة بل من زاوية تمتين التّمكن من ذهنية المواطن. بالتالى كان المشهد مختصرا فى أربع قنوات تليفزيونية، اثنتان (تونس 7 وقناة 21) تكوّن الإعلام العمومى (بمفهوم الخضوع لوزارة الإعلام), واثنتان ("حنبعل تى في" و"نسمة تى في") تتبع ما قد نسميه جزافا بالقطاع الخاص, فيما هو فى الأساس يتميز بالزبونية للنظام القائم. وبالتالي، تكون البرامج نمطية فى الجانب الإعلامى وفُرجوية من جانب التسلية. والعنصر الثانى يتمثل فيما يهطل على المواطن من سماء القمر الاصطناعى "نايلسات" والقليل من مثيله "عربسات". علما وأنه منذ فترة بعيدة لم يعد للقنوات الفرنسية شأن لدى المشاهد التونسي". ويضيف الخياطى :" ما أتت به ثورة 17 ديسمبر/14 يناير هو فى الأساس قلب لموازين القوى لصالح الشعب التونسى وإعطاء صورة اكثر صدقية لآماله ولمعاشه. فكان على المستوى الإعلام السمعى البصرى إنشاء "الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال" مع إلغاء لكل ما يُشتم منه رائحة وزارة للإعلام، ثم انشاء "الهايكا", وهى هيئة تعديلية للمشهد السمعى البصرى ذات صفة دستورية, وإطلاق حرية الرأى والتعبير فى مرسومى 115 للإعلام المكتوب و116 للإعلام السمعى البصرى ، وعلى نحو لا يجعل رأس المال السياسى أو الأحزاب السياسية تمتلك صراحة قنوات تليفزيونية. وهكذا انتقل المشهد السمعى البصرى من 4 قنوات الى 12 قناة تلفزية منها 10 قنوات خاصة، فضلا عن 17 محطة إذاعية، غالبيتها حصلت على تراخيص البث ووافقت على كراسات الشروط بعد الثورة. وآخر دراسة عن شهر نوفمبر الماضى قامت بها مؤسسة "سيجما" تؤكد ثراء المشهد الإعلامي, وإن كان به عديد من الإنفلاتات التى جعلت " الهايكا" تعمل بصرامة على الحد منها. لكن أهم الملاحظات هو غياب القنوات الاجنبية من العشر الأوائل التى يشاهدها التونسي، وهو الذى يقضى عادة اكثر من 180 دقيقة يوميا أمام شاشة التليفزيون. كما أصبحت الذروة تحتلها نشرة الاخبار الرئيسية على القناة الوطنية الأولى. ويؤكد "الخياطي: " إن هناك مكاسب عدة جلبتها الثورة إلى المشهد السمعى البصرى تتقدمها حرية الرأى والتعبير، ثم مسألة التعديل السمعى البصرى وكراسات الشروط والاستجابة لرغبات وتطلعات المشاهد التونسى إلى مجتمع مدنى قائم على تعدد الرؤى فى نظام جمهوري".