ودع العالم خلال الأسابيع القليلة الماضية، ثلاثة من القمم الفكرية البارزة عالميا وعربيا ومصريا، أثروا الوعى الإنسانى ونسجوا بأفكارهم شبكة هائلة تحول بين الناس والسقوط فى دوامات التخلف وتشق لهم طرقا يبسا للتقدم المرتكز إلى الوعى والبناء المنطوى على التحضر والتمدن. هؤلاء هم الروائى والفيلسوف الإيطالى أمبرتو إيكو «5 يناير 1932 - 19 فبراير 2016».. المفكر والناقد السورى جورج طرابيشى «1939- 16مارس 2016».. الفيلسوف الدكتور المصرى على مبروك «20 أكتوبر 1958- 20 مارس 2016». عُرف أمبرتو إيكو بدراساته الفلسفية الرصينة التى تجاوزت العشرات وتعد محطات أساسية فى الفكر العالمى الحديث ورواياته المغوية، لاسيما روايته الأشهر «اسم الوردة» التى تفضح الفهم المغلوط والقاصر لدى بعض المتطرفين دينيا، لاعتقادهم أن الدين ضد الحياة والبهجة، وأنهم مفوضون لحمايته وتنقيته من الفاسدين حتى بالقتل، عبر قالب تراجيدى يدور فى أجواء بوليسية مرعبة، خلال العصور الوسطى، تقوم الرواية على أن السلطة الدينية الكنسية آنذاك - ممثلة فى الكاهن المتشدد يورج - تمنع «الضحك» وتحاربه، بكل الوسائل مهما تكن بشاعتها، لأن يورج يرى أن الضحك والفرح والمرح واللعب هو الضعف والانحلال، يبعد عن قيم الدين الرفيعة، ويدفع الشك باليقينيات الدينية.. تتوالى جرائم القتل المجهولة، فى جو من الإثارة، بقصد حجب كتاب «الكوميديا» لأرسطو، ومنعه من الانتشار، لكن المحقق وليام يفك ألغاز الجرائم، ويوضح للكاهن أن الضحك حياة وحاجة إنسانية، وأنه حالة تحرر من ربقة المادة والخوف، وأن الإنسان «الحر» هو القادر على الفعل السوى والاختيار السليم دون وصاية. أسقط إيكو الماضى على الحاضر، ليزيح المساحيق الخادعة عن أفكار وأناس يحيون بيننا، هذا العصر، متوهمين أحقيتهم بالدفاع عن الشرائع، والقضاء على كل ما يخرج عن مفاهيمهم ورؤيتهم القاصرة للدين بوصف ما عداها «بدعا». وقف جورج طرابيشى على تلة مقابلة للفيلسوف الإيطالى، مشاركا إياه الإيمان بأن تغيير الواقع يشجّع الدين على التجدد، وبدونه يجمد الدين ويزداد عنفاً، داعيا إلى الإصلاح بوصفه حركةً داخل الدين أى دين - ترمى إلى ملاءمته مع العصر، تناوئ تأويلاته السائدة والمصالح الواقفة وراءها. لكن طرابيشى لا يرى «الإصلاح الدينى» إلا جزءا من تغيير تاريخى شامل. قطع الرجل رحلة طويلة مع الآداب والفلسفة والأديان، ومرّ بتحولات فكرية - سياسية من القومية إلى الماركسية إلى الليبرالية، أنتج أكثر من 200 كتاب ما بين مؤلف ومترجم، وقدم نقدا واعيا- وإن كان قاسيا أحيانا- للتراث والتيارات الفكرية والسياسية الدينية، بدءا من كتابه «الاستراتيجية الطبقية للثورة»، إلى «من النهضة إلى الردّة: تمزقات الثقافة العربية فى عصر العولمة»، و«العقل المستقيل..»، خاض معارك فكرية، طبعت زماننا، أبرزها مع المفكر المغربى محمد عابد الجابرى، حول «العقل العربى»، بغية فتح مسام التغيير العربى المسدودة، تأسيسا على أن الحديث عن «الإصلاح السياسى» دون إزاحة المنظومات والمفاهيم القديمة، ليس سوى «نقش على الماء»، وحذر من الفهم الخاطئ لقضية الديمقراطية، أى اختصارها فى أحد مظاهرها، وهو «صندوق الاقتراع». وفى نوع من «حوار التماهى» مع إيكو وطرابيشى، أمسك على مبروك طرف الخيط ومده بشجاعة إلى آخره، إلى عقدة العقد خلال حكم الإخوان فى انحطاط المجتمعات، أى ما سماه «لاهوت الاستبداد»، فعندما يمنح أحد الحكام لنفسه سلطة دينية للسيطرة على ما حوله حتى لا يعارضه أحد، فالمعارضة ستكون وقتها لله وشريعته.. وهى الحالة الأكثر ضراوة والأعصى على التحدى، الموعظة هنا أنه لا حياة لمجتمع بصوت أو اتجاه فكرى أوسياسى واحد، وأن التنوع وتعدد الأصوات مخرج من الظلمات إلى النور. عدّ مبروك، جماعة الإخوان ممثلا لتيار الإسلام السياسى تقوم على «الالتباس»، كأن يأتى حاكم مثلا، ويصور للناس أن غاية دولته هى ضمان خلاصهم فى الآخرة، ليضمن سكوتهم عن وضعهم البائس فى الدنيا.. لكنه ساوى بإنصاف بين الإسلامويين والحداثويين، بوصفهم أسرى «اللاتاريخية»، بمعنى التفكير المتعالى على تحديدات السياق «الزمانى والمكاني» وشروطه، لحساب أصل مثالى جاهز يوجد مطلقا، ولا سبيل إلا إلى فرضه «طوعا أو كرها» على الواقع. فاللا تاريخية هى جذر «الأصولية» لأنها تفكير بأصل ثابت، سواء كان مصدره: «التراث أو الحداثة». تأمل مبروك ضعف نتائج التغيير فى مصر طيلة القرنين الماضيين فأرجعه إلى خفوت أنوار العقل إلى هامش المشهد، وبروز القوة كفاعل رئيس وسطه، يكفى أن تقرأ كتبه، مثل: «عن الإمامة والسياسة» و«السلطة والمقدس..»، و«لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا» و«ثورات العرب... خطاب التأسيس». إن الراحلين الثلاثة عقول جبارة، تركوا بصمات غائرة على مسيرة الفكر والمعرفة الإنسانية، بقدرتهم الفذة على الإقناع والانفتاح على إمكانات التحليل اللغوى والفلسفى والاجتماعى والسياسى وتأويل الخطابات الثقافية.. ولعل الخيط الناظم بينهم هو فضح الفهم المغلوط للدين وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وشق طرق للتعامل الخلاق مع مشكلات الواقع وأسئلته، بحيث ينطبق عليهم وصف الكاتب الانجليزى ماثيو أرنولد عن «المثقف الكبير»: الذى من مهامه تحريك ثقافة المجتمع وجعل الناس على مختلف مستوياتهم أكثر وعيا وتحسسا للجمال الفنى والأدبى، وكسرا للحجب الحاجبة التى تفصلهم عن قضايا العالم، ليصبحوا أكثر إلماما بالمشكلات التى يواجهونها. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن