في هذا المناخ العام الذي تهيمن عليه أصوات تتوعد الناس وتثير في قلوبهم الخوف والفزع بشأن مستقبلهم وأيامهم القادمة, وجدتني أعود إلي هذه الرواية الشهيرة للروائي وعالم السيميوطيقا الإيطالي المعاصر أمبرتو إكو, حيث تدور هذه الرواية حول محاولات مستميتة لكشف سر تلك الجرائم الغامضة المتتالية التي تدور بين جنبات أحد الأديرة في القرون الوسطي في إيطاليا, ويكون هناك بحث محموم عن كتاب مسموم يقال إن له قوة ألف عقرب وهذا الكتاب هو الجزء الثاني من كتاب أرسطو عن الشعر, وهو الجزء الذي خصصه للحديث عن الكوميديا والضحك. وهناك أسرار غامضة تحيط باختفاء هذا الكتاب, وبوجوده أيضا, وهناك إشارات ثقافية عديدة وكثيفة في هذه الرواية إلي أعمال فلسفية وأدبية ودينية وتاريخية وزمانية ومكانية عديدة; مما يجعل هذا النص أشبه بالبوتقة الكبيرة التي تنصهر فيها نصوص غائبة عديدة. هناك إشارات عديدة في هذه الرواية إلي كتب الفكاهة العربية والأوروبية, وإلي كتابات ابن حزم, وألف ليلة وليلة, وإلي أساطير خلق العالم من خلال الضحك لدي الفراعنة, ولدي غيرهم وأشارت كذلك إلي مخطوطات وإبداعات أوروبية وعربية وعالمية عديدة. لكن المهم في هذه الرواية أيضا هو هذا الجو الغامض المغلف بضباب السرية والتكتم والألغاز, والذي يحيط بهذا الكتاب المفقود الغامض الذي يقال إن أرسطو قد خصصه للحديث عن الفكاهة والضحك. وتدريجيا تتصاعد الأحداث مما يصعب إثباته أو تلخيصه في هذا الحيز المحدود, لكن ما يهمنا منها هو تلك الإشارات والحوارات العديدة حول الضحك, وهي الإشارات والحوارات التي تبلغ ذروتها في اليوم السابع من تلك الأيام السبعة التي تدور خلالها الأحداث المهمة في هذه الرواية, ففي اليوم السابع وليلا وفي متاهة عميقة داخل المكتبة يصل وليم المكلف بالتحري حول هذه الجرائم, ومعه تلميذه أدسو دي مالك إلي أن الراهب البيوريتاني( التطهري) يورج هو القاتل الذي يقف وراء سلسلة الجرائم هذه, وهو الذي أخفي المخطوط أكثر من عشرين عاما حدثت خلالها الجرائم, وعندما يكتشفانه في تلك القاعة الغامضة داخل الدير, ويبدأ وليم بعد أن ارتدي قفازا خاصا في تقليب صفات المخطوط, يتوقف بعد برهة لالتصاق بعض الصفحات فيزداد اهتمام الراهب الأعمي ويحرضه يورج علي مواصلة القراءة آملا أن تؤدي هذه القراءة إلي موته كما حدث بالنسبة إلي كثيرين قبله, وذلك لأن يورج كان قد وضع بعض السم حول أوراق المخطوط وفوقها, ولأن أوراق المخطوط كانت ملتصقة- لأنه قديم جدا- فقد كان لا بد لمن يريد مواصلة القراءة أن يبلل أصابعه بلسانه, ويواصل القراءة, فإذا كانت يداه عاريتين فإن السم سيتسرب من المخطوط إلي فمه علي نحو متكرر وهكذا يلقي حتفه في النهاية, ويقتل القارئ له فلا تذاع ما به من أفكار وآراء ونظريات حول الضحك أو تنتشر. إن الضحية- كما جاء في الرواية- تتسمم من تلقاء نفسها, وبقدر رغبتها في القراءة. يقول وليم موجها كلامه إلي يورج( الراهب القاتل): ولكن قل لي الآن, لماذا؟ لماذا أردت أن تحمي هذا الكتاب أكثر من كتب أخري كثيرة؟ لماذا من أجل هذه الصفحات ألقيت بزملائك إلي التهلكة؟ هناك كتب أخري تتحدث عن الملهاة, وأخري كثيرة أيضا تمتدح الضحك, فلماذا كان هذا الكتاب يخيفك إلي هذه الدرجة؟, ويجيب بورج: لأنه للفيلسوف. كل كتاب لهذا الرجل حطم جزءا من المعرفة التي جمعتها المسيحية طيلة قرون, وبعد أن يستطرد هذا الراهب القاتل في شرح الأخطار التي ألحقتها كتب أرسطو بالأفكار المسيحية الأساسية حول تركيب الكون وخلقه, وعلاقة المادة بالروح والأرض بالسماء, يسأله محاوره قائلا: ولكن ما الذي روعك في هذا الخطاب عن الضحك؟ لن تلغي الضحك بإلغائك لهذا الكتاب; هنا ينبري الراهب يورج بشرح أفكاره ومخاوفه وهواجسه وكوابيسه, التي أثارها هذا الكتاب بداخله, فظل معذبا بها يقتل تحت وطأة سيطرتها عليه كل من تسول له نفسه أن يقرأه ويعرف خفاياه وأسراره. إن الضحك كما قال الراهب يورج في هذه الرواية يحرر العامي من الخوف من الشيطان; لأنه في حفل الأغبياء, حتي الشيطان يكون فقيرا وغبيا, ويمكن إذن مراقبته. ولا يخشي هذا الراهب القاتل من ضحك العامة; لأنه ما زال عملية بطن, عملية لا ترتفع أو تتجاوز وجودها الأدني عند مستوي الغرائز فترتقي إلي أعلي, عند مستوي الفكر والعلم والنظرية. إن ضحك الناس يحررهم حتي من الخوف. هكذا يكون تحريم الضحك, في رأي هذا الراهب في هذه الرواية وتصوراته, وسيلة لإحكام سيطرة الخوف علي الناس, الخوف من الموت والخوف من العقاب, والخوف من الخروج علي القوانين الدينية أو السياسية, الخوف بكل أشكاله وتجلياته, الخوف الذي يشل العقل والقلب والوجدان والسلوك, الخوف مما لا يخيف, الخوف الذي حل بديلا للحب, والموت الذي جاء فشغل ساحة الحياة. ويتحول انفعال الخوف لدي هذا الراهب إلي كائن كبير يهيمن علي كل شيء, ومن ثم يتساءل قائلا: وماذا سيكون مصيرنا, نحن الكائنات المذنبة, من غير الخوف. إن هذا الراهب نفسه يتحول إلي صورة أخري مخيفة من صور الشيطان بروحه المتجبرة, وجرائمه, ويقينه الذي يفتقر حتي إلي الابتسامة, ويتمسك بآرائه بشكل جامد عنيد. لقد كان الراهب يورج حريصا علي إخفاء كتاب الضحك لأرسطو, خوفا من قضاء أفكاره, لو أشاعها العلماء والفلاسفة والباحثون, علي الخوف, الخوف المرتبط بالدين بوجه خاص, وهو خوف أحكم من خلاله سدنة الدين خلال القرون الوسطي قبضتهم علي مصائر الناس وسلوكياتهم, ومن ثم كان هناك خوف ومازال من أن يؤدي الضحك إلي هدم الخوف, ومن ثم يتجرأ العامة علي الخاصة وإلي غير ذلك- من العواقب والأضرار. ويعود الراهب يورج مفصلا وجهة نظره أيضا من خلال إشارات متكررة إلي بعض ما جاء في هذا المخطوط أو هذا الكتاب, فيقول: إن هذا الكتاب بتبريره للملهاة وكذلك الأهجوة( المحاكاة) علي أنها دواء معجز, يطهر من الأهواء من خلال تصوير العيب والنقص, سيحمل العلماء الزائفين( بانعكاس شيطاني) علي محاولة التكفير عما هو سام من خلال قبول الدنيء, أي أنه إذا كان العامة يستمتعون بالضحك فلنجعل الصرامة علاجا وسلاحا لهم ولسلوكياتهم يبعدهم عن إغراءات البطن والعورة والطعام, وعن رغباتهم الحيوانية. ثم إن هذا الراهب القاتل الذي يمقت الضحك, ويرتكب جرائمه حتي يظل الناس في خوف دائم, وعندما يتم اكتشاف كتاب الضحك المسموم الذي يخفيه الكتاب ويشعر بأنه يوشك أن يفقد صفحاته, يبدأ في وضعها في فمه ومضغها وأكلها كي لا تصل إلي أية يد أخري. هنا يقول الراوي.وضحك يورج, بالله, نعم ضحك. للمرة الأولي أسمعه يضحك.. ضحك بحنجرته, دون أن تتخذ شفتاه هيئة الحبور. كان يبدو وكأنه يبكي. لقد أكل أرسطو, وتحدث مطاردات للراهب الأعمي القاتل وهو يتناول أرسطو ويأكله, ويبدأ السم يسري في جسده, وتتحول صورته من صورة شيخ وقور إلي صورة تظهر شنيعة وبشعة: كان يمكن أن تبعث في حالات أخري علي الضحك, وتشتعل نار في المكتبة في أثناء المطاردة عندما يسقط سراج مشتعل( مصباح) علي الأرض, فتحرق كتبا كثيرة, ويلقي الراهب الأعمي ما تبقي من كتاب أر سطو في النار, حيث كان أر سطو أو ما تبقي من فطور الشيخ, يحترق, وتمتد النيران إلي الدير كله لتأتي عليه, فيصبح أثرا بعد عين. وتنتهي الرواية بالقول: كان يورج يخشي الكتاب الثاني لأرسطو, ربما لأنه كان يعلمنا أن نمسخ وجه كل حقيقة, حتي لا نصبح عبيد أوهامنا. ربما كان واجب من يريد الخير للبشرية هو أن يجعلها تضحك من الحقيقة أن تضحك الحقيقة لأن الحقيقة الوحيدة هي أن تتعلم كيف نتحرر من شغفنا المنحرف بالحقيقة. هكذا قدم أمبرتو إكو روايته المتميزة هذه حول الضحك, وهي الرواية التي تحولت إلي فيلم سينمائي متميز, قام ببطولته شين كونري لكنه لم يحظ بالشهرة نفسها التي حظيت بها الرواية; وهكذا يكون الضحك في تصور إكو وسيلة لمقاومة الخوف أيا كان, ومن أية سلطة معلومة أو مجهولة, أيا كانت, وهكذا كان ذلك الخوف من الضحك وهكذا يكون دائما. فالضحك يمنح الإنسان طاقة وقوة مجددة يتغلب من خلالها علي مخاوفه الخاصة, أو يقوم من خلالها, وبالتعاون والمشاركة مع الآخرين, بمواجهة مخاوفهم العامة والتغلب عليها, ومن هنا كانت هناك دائما تلك الحالة الخاصة من الخوف من الضحك, وفي مقابلها هذه الحالة العامة المتعلقة ب الضحك من الخوف. المزيد من مقالات شاكر عبدالحميد