غيب الموت أخيرا المترجم والمفكّر السورى البارز جورج طرابيشى عن 77 عاماً، مخلفاً وراءه رصيداً فكرياً كبيراً تضمن عشرات المؤلفات التى أثارت جدلا كبيرا فى القضايا الأساسية التى شغلت الفكر العربى فى القرن العشرين، بالإضافة إلى عشرات الكتب المترجمة، حيث ترجم طرابيشى لفرويد وهيجل وسارتر وجارودى وسيمون دى بوفوار وآخرين، وبلغت ترجماته ما يزيد على مائتى كتاب فى الفلسفة والإيديولوجيا والتحليل النفسى والرواية، وكان واحداً من أبرز الباحثين العرب فى مجالات الفكر الثورى وتحولات الدولة وعلم الجمال، كما كان له مؤلفات مهمة فى الماركسية والنظرية القومية وفى النقد الأدبى للرواية العربية، مما دفع البعض ليلقبه ب"فولتير العرب" . وتبرز أهمية مشروع طرابيشى الفكرى فى مساهمته البارزة فى تحرير العقل العربى من أسر الأصولية والتخلف والتمسك العتيد بالتراث دون إحراز أى تقدم .يقول طرابيشى منتقدا المثقف العربي: "فقد المثقف فى العالم العربى سيطرته على الواقع، وبحث عن خطاب يسيطر عبره فوجد خطاب التراث، فأمسك به كما هو وأعاد إنتاجه... المثقف العربى ما زال فاقد الفعالية التاريخية يبحث عن آباء وهميين يحتمى بهم...ثقافتنا هى انغلاق على مفاهيم من عصور سابقة كانت فعالة آنذاك لكنها اليوم بلا أدنى فعالية، نحن نريد أن نجيب على اسئلة الأبناء بأجوبة الأجداد، والانفتاح على الحداثة هو الذى يمكن أن يطرح على التراث أسئلة جديدة، وأن يستنطقه أجوبة جديدة، وأن يعيد صياغته فى إشكاليات جديدة"... هكذا كانت رؤية طرابيشى الذى آمن بأن تحقيق النهضة العربية مرهون بتحرير العقل، من خلال عملية نقد جذرية للتراث، وكان يقول قبل فترة وجيزة من وفاته بأن ذلك ليس متحققا حتى الآن، وربما لن يكون متحققا لفترة ليست قليلة من الزمن. كان المفكر والناقد, الذى قضى نصف حياته فى منفاه الاختيارى بباريس, يرى أن الغرب لم يبن نفسه إلا بقدر ما نقد نفسه. وأن العقل الغربى صار متفوقاً وعالمى الحضارة حين مارس النقد الذاتي. أما نحن, الذين لدينا موروث لا يقل أهمية أو حجماً عن الموروث الغربي، فإننا لن نستطيع أن نباشر مهمة التحديث والوصول إلى النهضة المرجوة ما لم نقم بالعملية النقدية نفسها التى أخضع الغرب نفسه لها, ولن نستطيع ان نخوض معركة الحداثة ونحن عراة من النقد الحقيقي. وينقسم المسار الفكرى عند جورج طرابيشى إلى مرحلتين أساسيتين، كل منهما كان لها مسارها الخاص. فى المرحلة الأولى تبنى الأيديولوجيات الغربية الحديثة من ماركسية إلى قومية، وتخللت قطيعة تامة مع التراث. وفى الثانية اتجه إلى اكتشاف التراث، عموماً، وإلى نقد عمل المفكر محمد عابد الجابرى "نقد العقل العربي". أتى "نقد نقد العقل العربي"كمشروع ضخم عمل عليه طرابيشى أكثر من 20 عاماً وصدر فى 5 أجزاء، خصصه لنقد مشروع الكاتب والمفكر المغربى محمد عابد الجابري. ووصفه نقاد ومفكرون بكونه عملا موسوعيا يحتوى على قراءة ومراجعة للتراث اليونانى وللتراث الأوروبى الفلسفى وللتراث العربى الإسلامي, ليس الفلسفى فحسب، بل أيضاً الكلامى والفقهى والصوفى واللغوي. وانتقد فيه طرابيشى الجابرى ومنهجه والأخطاء التى ارتكبها, واتهمه بخيانة مصادره التراثية لدرجة خلقت توترا وجدلا شديدا بينهما، وربما قطيعة بعد أن هاجمه الجابرى واتهمه بأن نقده لكتابه " نقد العقل العربى " كان مدفوعاً بعوامل سياسية وأيديولوجية، وأن طرابيشى ليس مؤهلاً بسبب اختلاف دينه للغوص فى مسائل تراثية وتاريخية معينة. وقد سببت تلك الاتهامات فى توجيه انتقادات حادة للجابرى لكونه لم يفند ويناقش ما توصل له طرابيشى واكتفى بتوجيه انتقادات وصفها كثيرون بكونها طائفية. وفى حوار معه عرف جورج طرابيشى نفسه بعد كل مراحل التطور الفكرى التى مر بها، بكونه "داعية تجديد للنهضة"، أو "نهضوى جديد"، معربا عن اعتقاده أن المشكلة فى العالم العربى ليست محصورة فى جانب دون آخر، مضيفا " ليست القضية، قضية ديمقراطية فقط، ولا ليبرالية فقط، ولا اشتراكية فقط كما كنا نتوهم فى يوم من الأيام، كل هذه الأيديولوجيات، التى اسميها «أيديوجيات خلاصية»، ليست حلا. فهذه الأيديولوجيات الخلاصية توحى بأمل كاذب. لأن كل هذه الإشكالات هى نتيجة وليست هى السبب لتغيير واقع العالم العربي، نحن نحتاج إلى تجديد النهضة لأننا نحتاج إلى أن نزرع البذور من جديد لا أن نقطف الثمار. وإذا تصورنا أن الديمقراطية أو الليبرالية هى ثمرة جاهزة للقطف ما علينا إلا نقطفها حتى ننتقل، بمعجزة، نقلة عجائبية من واقع التخلف إلى مثال التقدم, فأعتقد أننا سنكون واهمين مع الديمقراطية والليبرالية كما كنا واهمين بالأمس مع الوحدة العربية والاشتراكية". وبالرغم من كونه علمانيا إلا أنه كان يرفض أن تتحوّل العلمانية إلى أيديولوجيا, حيث يرى أنها فى هذه الحالة تصبح خطرة كما فى الدول الشيوعية التى عادت الدين، معتبرا أن الدولة العلمانية الحقيقية لا تحارب الدين بل تُتيح حرية التدين للجميع, أمّا مأساة العلمانية العربية فتمثّلت فى أنّ الأحزاب التقدّمية أغفلت موضوع العلمانية وسايرت الجماهير والإسلاميين كى لا تصدم الوعى الدينى بمعنى أرادت أن تكسب الجماهير من دون أن تصدم وعيها. واجه طرابيشى انتقادات من البعض لمواقفه السياسية وفكره, كان بينها تصنيفه فى عداد جملة القوميين واليساريين والعلمانيين المؤيدين للنظام السورى ورئيسه الأسد، وهو ما دفعه للرد دفاعا عن نفسه منتقدا النظام السورى قائلا : "أتحدى متهمى بأن يأتى بدليل واحد على ما يدعيه من تأييدى النظام السورى ورئيسه. فأنا، بعد تجربة فى السجن فى عهد البعث، اضطررت أن أهاجر عن بلدى منذ 42 سنة؛ وطيلة العقود الأربعة التالية، ورغم كل ما أسهمت به فى خدمة الثقافة العربية (نحو من مائتى كتاب مؤلف ومترجم)، لم أُكرَّم قط فى بلدي، ولم أُمنح جائزة من مؤسساته، بل لم أًدعَ ولو مرة واحدة إلى حضور ندوة واحدة من الندوات التى كانت تنظمها هذه المؤسسات. وهذا فضلاً عن أن كتابى الذى يجرِّمه متهمى ضمنياً، وأعنى «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث»، قد صودر فى معرض دمشق للكتاب ومنع من دخول سوريا". وأضاف "وعندما اندلعت الانتفاضة السورية قبل ثلاث سنوات كتبت مقالاً عرف توزيعاً واسعاً بعنوان «سورية: النظام من الإصلاح إلى الإلغاء» طالبت فيه النظام السوري، لا بإصلاح نفسه – فتلك كانت خطوة قد فات أوانها – بل بإلغاء نفسه بنفسه، إذا كان يريد تجنب الحرب الأهلية فى بلد كسوريا متعدد الأديان والطوائف والإثنيات. ومنذ ذلك الحين لم أعد إلى كتابة أى مقال آخر، لا عن النظام ولا عن المعارضة، ولا عن الغزوة التكفيرية القاعدية الطالبانية. فعندما يرى الإنسان بلده يُدمَّر على نحو غير مسبوق فى تاريخ الحروب الأهلية، فإن الألم يشلّ القلم، فلا يبقى له أن يكتب إذا استطاع أن يكتب سوى: وداعاً يا سوريا التى كنت أعرف". وفى إحدى الندوات الفكرية دعا طرابيشى العرب إلى ممارسة النقد الذاتى وإعادة النظر فى جميع مقولاتهم بما فيها مقولة "الربيع العربي"، مشيراً إلى أن "سياسة الأنظمة الاستبدادية خلال عقود دفعتنا لاحتضان الربيع العربى حتى قبل أن يولد". وأضاف طرابيشى أن "الربيع العربى لا يُعتبر مفهوماً بل استعارة من الجغرافيا والمناخ، وتقليد لما حدث فى أوروبا الشرقية يوم خرجت شعوبها من عصر الجليد إلى الربيع، فنحن راهنا على هذا الربيع حتى قبل أن يولد كرهاً منا لهذه الأنظمة التى أذاقتنا الجحيم على مدى عقود طويلة، ولكن مع الأسف اكتشفنا فيما بعد أن هذا كان أيضا مجرد أوهام". وُلد طرابيشى فى حلب عام 1939، حصل على إجازة فى اللغة العربية وماجستير فى التربية من جامعة دمشق، عمل فى عدّة مؤسّسات إعلامية فى بلاده وخارجها؛ منها مديراَ لإذاعة دمشق بين عامى 1963 و1964، ورئيس تحرير لمجلّة "دراسات عربية" بين 1972 و1984. عمل أيضاً محرّراً رئيسياً فى "مجلّة الوحدة" خلال إقامته فى لبنان بين عامى 1984 و1989، والذى رحل منه، غداة الحرب الأهلية، إلى باريس؛ حيث تفرّغ للتأليف والترجمة. بدأ فى الكتابة فى مجال النقد الأدبى للرواية العربية التى طبّق عليها مناهج التحليل النفسي؛ كما فى كتبه "عقدة أوديب فى الرواية العربية" و"الرجولة وأيديولوجيا الرجولة فى الرواية العربية" و "رمزية المرأة فى الرواية العربية"، "أنثى ضد الأنوثة: دراسة فى أدب نوال السعداوى على ضوء التحليل النفسي"، "لعبة الحلم والواقع فى أدب توفيق الحكيم"، وغيرها. ومن أبرز مؤلفاته فى الفلسفة والفكر الإسلامى: "من النهضة إلى الردة"، و"سارتر والماركسية"، و"الماركسية والإيديولوجيا"، و"المثقّفون العرب والتراث: التحليل النفسى لعصاب جماعي"، و"المعجزة أو سبات العقل فى الإسلام"، و"من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث".و" مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام"، و"النظرية القومية والدولة القطرية"، و"الإستراتيجية الطبقية للثورة"، و"هرطقات" فى جزءين الأول عن "الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية" والثانى عن "العلمانية كإشكالية إسلامية- إسلامية".