رياض الصلح زعيم وطنى لبنانى كبير. إنه أحد صانعى استقلال لبنان فى عام 1943. وهو أحد الوجوه البارزة فى الحركة القومية العربية منذ مطالع القرن العشرين، سواء فى ظل السلطنة العثمانية، أم فى ظل الانتداب الفرنسى على لبنانوسوريا. واستحضار اسمه اليوم يرتدى أهمية خاصة، بالنظر لما يجرى فى لبنان من أحداث تذكِّر بمرحلة الاستقلال الأول، ويستدعى بناء ركائز هذا الاستقلال على أسس جديدة، أكثر وضوحاً فى الانتماء إلى الوطن اللبناني، وأكثر تحرراً من المؤثرات الخارجية العربية والأجنبية، التى شوَّهت معنى الوطنية ومعنى القومية وشوّهت معنى الوطن والدولة الحاضنة له ومعنى الانتماء إلى الوطن وإلى الدولة المدنية الحديثة. لم يعش رياض الصلح طويلاً. وُلد فى عام 1894 واغتيل فى عام 1951. لكن هذه الأعوام السبعة والخمسين من حياته كانت حافلة بالنشاط السياسي، لبنانياً وعربياً، وغنية بالتجارب، وبالغة الأثر والتأثير فى مجرى الأحداث التى شهدتها المنطقة، لا سيما فى سورياولبنان عشية حصول البلدين على استقلالهما، وفى المرحلة التى تلت ذلك. وقبل الدخول فى تفاصيل الحديث عن سيرة هذا الزعيم اللبنانى العربى الكبير، لا بد من التوقف عند المرحلة المتصلة بمعركة الاستقلال، التى كان له دور أساسى فيها. كان من الصعب على رياض الصلح، القومى العربى والداعية منذ مطالع شبابه للوحدة العربية، ولوحدة بلاد الشام كمرحلة تسبق تحقيق تلك الوحدة (سورياولبنانوالأردنوفلسطين)، كان من الصعب عليه أن ينتقل إلى الاهتمام بلبنان، فى السنوات الخمس عشرة التى أعقبت إنشاء لبنان الكبير فى عام 1920. فقد كانت همومه واهتماماته منصبَّة بالكامل على العمل فى سوريا ومع القيادات الوطنية السورية، ومع الثورة التى قادها سلطان باشا الأطرش فى عام 1925 ضد الانتداب الفرنسى على سورياولبنان، بقرار من عصبة الأمم. وكان رياض يتنقل بين دمشقوبيروت والقاهرة وباريس وجنيف، منفرداً أو فى إطار وفد سورى مشترك، أو وفد سورى لبنانىفلسطينى مشترك، أولاً لرفض تقسيم بلاد الشام، ثم لرفض الانتداب على هذه البلاد، فرنسا فى سورياولبنان، وبريطانيا فى الأردنوفلسطين. وقد كانت تلك المرحلة غنية بالأحداث، وبدور رياض الصلح فيها، سواء فى المظاهرات التى شارك فى الدعوة لها مع آخرين من قادة الحركة الوطنية الاستقلالية فى كل من دمشقوبيروت، أم فى المنتديات الدولية، لا سيما فى باريس وجنيف وبروكسل. وكان من أبرز تلك المعارك التى شارك فيها رياض معركة الدستور فى عام 1926، التى انتهت بإقرار أول دستور للجمهورية اللبنانية فى ذلك العام بالذات، والذى أصبح لبنان بموجبه جمهورية ذات نظام ديمقراطى تعددي، ومجلس نيابى منتخب، ورئيس جمهورية منتخب من البرلمان. وكانت تربط لبنان الجمهورى بالدولة المنتدبة معاهدة محددة فى الزمن، ينتقل لبنان فى نهايتها إلى رحاب الاستقلال. وتجدر الإشارة هنا إلى عام 1936 الذى احتدم النقاش فيه حول صيغة لبنان وحول حدوده وحول علاقته بسوريا. ومن المعروف أن مؤتمراً عقد فى ذلك التاريخ يعرف بمؤتمر الساحل، كان معظم المشاركين فيه من الزعماء المسلمين، وكان بينهم كذلك مسيحيون ينتمون إلى التيار القومى العربي. وكان من أخطر ما قرَّره المؤتمرون يومذاك عدم الاعتراف بلبنان الكبير، وذلك بالإعلان عن انضمام أربعة أقضية تشمل بيروت والساحل الشمالى ومنطقة البقاع فى شرق البلاد، إلى سوريا. لكن رياض الصلح، وهو من أوائل الداعين إلى وحدة بلاد الشام على طريق الوحدة العربية الشاملة، كان ضد ذلك الموقف. إذ كان قد بدأ يقتنع بواقعية السياسى المجرب أن من شأن ذلك الموقف أن يؤدى إلى تدمير البلدين، ويصعب عملية الوصول إلى استقلالهما وتحررهما من الانتداب، آخذاً فى الاعتبار فى الوقت عينه أن من الخطأ إحداث انقسام فى الشعب اللبنانى بين مؤيد لعروبته، فى شكل العلاقة الاتحادية مع سوريا، وبين من يريد البقاء فى أسر العلاقة مع فرنسا المنتدبة. وآثر العمل على توحيد اللبنانيين والسوريين فى الحركة الوطنية من أجل استقلال البلدين، وإقامة علاقات واضحة ومحددة بينهما بعد الاستقلال. وكان يشارك رياض فى موقفه ذاك ابن عمه كاظم الصلح. وهكذا فقد كان سلوك رياض الصلح بدءاً من ذلك التاريخ مختلفاً فى الاستراتيجية والتكتيك عن سلوكه السابق الذى سيطر عليه همه فى تحقيق وحدة البلدان العربية، ابتداءً من وحدة بلاد الشام. وكان هاجس الزعيمين العمل على إخراج اللبنانيين من أسر المشاعر والانقسامات الطائفية، للدخول فى الانتماء إلى الوطن اللبنانى على قاعدة أنه وطن جميع اللبنانيين بمعزل عن انتماءاتهم الطائفية. وكان ذلك الموقف مدخلاً إلى ما أصبح معروفاً فى لحظة الاستقلال اللبنانى بالميثاق الوطني. على أن لميثاق عام 1943، وهو الميثاق الذى جرى تعميمه كأساس لقيام دولة الاستقلال، كان مسبوقاً بميثاق أول جرى التداول بشأنه فى عام 1938 بين عدد من رجالات لبنان من مسلمين ومسيحيين، كان محوره يوسف السودا، الشخصية المسيحية المعروفة بعقلانية موقفها من القضية الوطنية اللبنانية بارتباطها بسائر القضايا العربية. وكان همّ رياض الصلح إذن همّاً لبنانياً فى الدرجة الأولى من دون أن يفصل بين همّه اللبنانى وبين اهتماماته بالشئون العربية الأخري. فشارك مع القيادات الوطنية السورية التى كان جزءاً منها فى الفترة السابقة، فى كل المعارك الوطنية التى خاضتها. وضاعف من اهتمامه بالقضية الفلسطينية، فى فترة كانت المنظمات الصهيونية تنشط لتوسيع هجرة اليهود من أوروبا إلى فلسطين. وكان قد أقام خلال زياراته المتعددة إلى فرنسا علاقات صداقة مع اليسار الفرنسي، وانتزع من قياداته إقراراً بحق لبنانوسوريا بالاستقلال. وتجدر الإشارة فى هذا الصدد إلى بعض المواقف المثيرة للدهشة فى سلوك رياض الصلح اللبنانى العربى فى قراءته للأحداث الجارية على الصعيد العالمي، وفى تحديد موقفه منها، بوعى متقدم. وكان من أوائل ما قام به، تشجيع مجموعة من الشباب اليساريين بتشكيل حزب اشتراكي، ومساعدتهم فى إقامة علاقات مع أركان اليسار الفرنسي، فى ذلك العام المشهود فى تاريخ فرنسا، تاريخ قيام الجبهة الشعبية (1936) التى شكلت حكومة يسارية من الحزب الاشتراكى والحزب الشيوعى وقوى يسارية وراديكالية أخري. ثم إنه، فى ذلك العام بالذات، اتصل بكل من سلام الراسى وعساف الصباغ اللذين كانا قد شكَّلا، بمبادرة من الحزب الشيوعى اللبناني، فريقاً من المناضلين للتصدى للهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتعقب ومطاردة المهاجرين والقبض عليهم، وإعادتهم إلى بلادهم الأصلية. إلاَّ أن ما هو أكثر إثارة للدهشة والإعجاب ما يتمثل بموقف رياض الصلح من الحرب الأهلية فى إسبانيا. إذ وقف إلى جانب الجمهورية ضد القوى الداخلية والخارجية بقيادة الجنرال فرنكو. ووجَّه فى ذلك العام (1936) نداءً إلى إخوانه العرب فى مراكش، عندما حاول فرانكو تجنيدهم فى حربه ضد الجمهورية، محذراً إياهم من الانجرار فى تلك الحرب. لكن رياض الصلح لم يكتفِ بذلك الموقف. بل هو تابع اهتمامه بالحركة النقابية. وشجَّع على تشكيل نقابات للعمال والمستخدمين، وتضامن مع الإضرابات التى كانت تطالب بحقوق هذه الفئة المقهورة فى المجتمع. ولم يتردد فى عام 1937 فى خوض معركته الانتخابية الأولى للبرلمان فى لائحة مشتركة مع كل من نقولا شاوى أحد قادة الحزب الشيوعى ومع سعد الدين مومنة القائد النقابى الشيوعى أيضاً. ولم يحالفهم النجاح. ثم جاءت معركة الجلاء. وكان لبنان قد أصبح، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عضواً فى الجمعية العامة للأمم المتحدة لدى تأسيسها فى عام 1945. وفور انتهاء الحرب بدأت معركة جلاء القوات الفرنسية والبريطانية من لبنانوسوريا. وكانت معركة وطنية، بامتياز. إذ اعتبرت أنها المعركة التى يستكمل بها لبنان استقلاله الحقيقى أسوة بسوريا الشقيقة فى المعركة ذاتها. ونجح البلدان، بفعل الفيتو السوفياتى الذى استخدم لأول مرة فى مجلس الأمن، فى فرض جلاء القوات الفرنسية والبريطانية عن سوريا فى 17 نيسان من عام 1946 وعن لبنان فى 31 كانون الأول من العام ذاته. وكان لرياض الصلح والوزير حميد فرنجية والقائد الشيوعى نقولا شاوى دور كبير فى ذلك الانتصار، الذى استخدم فيه الشيوعيون اللبنانيون علاقاتهم مع الحزب الشيوعى الفرنسى الذى كان أمينه العام موريس توريز يشغل منصب نائب رئيس الحكومة التى كان يرأسها الجنرال ديغول، وكان أعضاء من مكتبه السياسى وزراء فى تلك الحكومة. استمر رياض الصلح ينتقل بين رئاسة الحكومة وبين المعارضة حتى أيامه الأخيرة، التى انتهت باغتياله فى عمان (1951) من قبل عناصر تنتمى إلى الحزب السورى القومى الاجتماعي، انتقاماً لزعيم الحزب أنطون سعادة، الذى اتخذت حكومة رياض الصلح القرار بمحاكمته، إثر الثورة التى أعلنها سعادة ضد الحكومة اللبنانية، والحكم عليه بالإعدام وتنفيذ حكم الإعدام. وبالتأكيد فإن سيرة رياض الصلح حافلة بالكثير الكثير من الأحداث. وهى أغنى من أن تختصرها هذه السطور. وثمة روايات من هنا ومن هناك حول علاقاته بمؤسسى دولة إسرائيل وسوى ذلك من روايات لن أدخل هنا فى تفاصيلها. وسيرته حافلة بالصواب والخطأ. ويقول بعض الذين تابعوا قضية اغتياله أنه ذهب ضحية موافقته مع الملك عبد الله ملك الأردن، الذى اغتيل بعده بوقت قصير، موافقته على السعى لتحقيق وحدة العراقوالأردن تحت التاج الملكى الهاشمى لأولاد وأحفاد شريف مكة الشريف حسين بن على قائد الثورة العربية فى مطالع الحرب العالمية الأولي. لمزيد من مقالات كريم مروَّة