منذ أصبحت الدكتورة سحر نصر وزيرةً للتعاون الدولى وهى تضج بالنشاط ولا تكف عن الحركة. لم تمنعها هيئتها الأرستقراطية أو زيها المتأنق من أن تذهب إلى أقاصى الصعيد وتتجوّل فى العشوائيات وتقتعد الأرض مع الفلاحين والبسطاء، وتشاركهم أكل «الكشري» ! كل هذا جيدٌ ومطلوب حتى لو كانت الوزيرة تفعله من باب الشو الإعلامى فهذه معانٍ رمزية لا تخلو من تأثير إيجابى يشعر معها البسطاء والكادحون ولو للحظات عابرة بقرب المسئولين منهم. لكن سحر نصر التى تجمع بين المظهر البرجوازى وجوهر «بنت البلد» لا تكف أيضاً عن طرق أبواب مؤسسات وصناديق التمويل الدولية والوطنية لكى تستدين لمصر قروضاً بالمليارات حتى إننى لم أستطع أن أحسب على وجه الدقة كم ملياراً استطاعت الوزيرة سحر نصر جلبها لمصر فى صورة قروض أو مساعدة منذ تبوأت منصبها الوزارى فى سبتمبر من العام الماضي. وهنا تحديداً فى مسألة الاستدانة والقروض يكمن موضوع هذا المقال. معلومٌ لنا جميعاً أن مشاريع التنمية المطلوبة وإصلاح البنية التحتية وتطوير مرافق التعليم والصحة والنقل وتوفير الغذاء يحتاج إلى أموال لم نعد لأسباب كثيرة ومعقّدة قادرين على توفيرها. وبالتالى لا مفر من البحث عن مصدر تمويل خارجي. لكن معلومٌ لنا أيضاً أن تجربة الاستدانة التى سبق أن عرفتها مصر فى الثلث الاخير من القرن التاسع عشر خلال حقبة الخديو إسماعيل قد انتهت بفرض الرقابة المالية للدول الدائنة على الخزانة المصرية. بالطبع التاريخ لا يعيد نفسه، والظروف والسياقات مختلفة ، ومصر اليوم دولة ذات نظام جمهورى والانفاق العام يُفترض أنه محكوم بنظم وقواعد برغم ما نعانيه من الفساد. تلهذا نحن مطالبون بتوخى الحذر فى مسألة الاستدانة من الخارج وأن تكون هناك سياسة مدروسة فى ظل ارتفاع الدين الخارجى الى 48 مليار دولار، الأمر الذى يترتب عليه أن تصبح خدمة الدين الخارجى عبئاً إضافياً ثقيلاً تتحمله الموازنة العامة للدولة سنوياً. من هنا، وبما أن الحقيبة الوزارية التى تحملها الوزيرة سحر نصر تسمى «التعاون الدولي» فإننى أتساءل هل يقتصر مفهوم التعاون الدولى على مجرد الاقتراض والاستدانة من الخارج بكل ما يترتب على هذه الاستدانة من تبعات وأعباء ستتحملها الأجيال المقبلة ؟ أتساءل مدركاً ومتحمساً فى الوقت ذاته لحجم الطموح ونزعة الاستقلال الوطنى التى قد يُحد منها مستقبلاً ما قد تفرضه سياسات القروض والاستدانة الدولية من ضغوط وتبعات على استقلالية القرار المصرى لا سيما فى لحظات قد تتعارض فيها الأجندات الدولية مع مصالحنا وتطلعاتنا الوطنية. أعتقد أن التعاون الدولى فى عهد الوزيرة سحر نصر يحتاج إلى قدر من التطوير، وهى قادرة على ذلك بحكم خبراتها السابقة فى مؤسسة دولية كبرى مثل البنك الدولي. وزيرتنا النشيطة الدءوب هى أول من يجب أن يعمل بالحكمة الصينية القائلة «لا تعطنى سمكة بل علمنى كيف أصطادها» ولهذا نتمنى أن يتجاوز الأمر مجرد التوقيع على عقود القروض إلى إقامة إطار كامل من التعاون البشرى والفنى والتقنى للاستفادة المثلى فى تنفيذ المشروعات التى تُموَّل من هذه القروض. فنحن على سبيل المثال نعمل منذ زمن طويل فى إطار عقود لتمويل نقل التكنولوجيا لكن المطلوب اليوم هو تمويل ( توطين ) التكنولوجيا. ولعلّ هذا هو الفارق بيننا وبين تجربة النهوض الصينى العظيم فى بداية ثمانينيات القرن الماضى إذ لم تعتمد الصين على مجرد الاستدانة بقدر ما اعتمدت على مشاريع واعية ومخططة ومدروسة لتوطين التكنولوجيا، وهو ما نجحت فيه خلال فترة زمنية تعتبر قياسية فى مراحل التحول الصناعى والتكنولوجى للدول، وهذا أيضاً ما حدث فى كوريا الجنوبية وماليزيا وغيرهما من التجارب العالمية الناجحة. ما زالت قضايا وأولويات ملحة فى مصر مثل التعاون الدولى فى مجال التعليم والقضاء على الأمية بعيدة عن أجندة وزارة التعاون الدولى . حدث منذ أكثر من عشر سنوات أن قام الاتحاد الأوروبى بتمويل برنامج لتطوير التعليم فى بعض الجامعات المصرية لكننا لا نعرف فيم أنفقت هذه الأموال على وجه التحديد، إذا كانت النتيجة الوحيدة المؤكدة هى أن أحوال التعليم قد زادت سوءاً . وباستثناء ما أعلن مؤخراً عن مبادرة الاستفادة من تجربة التعليم فى اليابان لم نسمع بعد عن برنامج محدد بخطة تنفيذ زمنية من خلال إطار تعاون منظم وتفصيلى ودائم مع اليابان لنقل الخبرة اليابانية الناجحة إلينا. الملاحظ واللافت أن وزارة التعاون الدولى قررت المضى قُدماً فى مبادرة طال زمان انتظارها وهى تطهير الصحراء الغربية من الألغام المتخلفة من الحرب العالمية الثانية بالتعاون مع الدول المعنيّة. هذه المبادرة التى ظلت زمناً طويلاً ولأسباب غير مفهومة بعيدة عن اهتمام الدولة هى نموذج ناجح ومطلوب بل وملح لتعاون دولى جاد ومخلص نتمنى أن نمضى فيه إلى نهايته ليكون ذلك فيما لو تحقق أحد أكبر إنجازات الدكتورة سحر نصر. كان يمكن لمصر مطالبة الدول المتسببة فى هذه الألغام بحقها القانونى فى نزعها وفقاً لقواعد المسئولية فى القانون الدولي. لكن يبدو أننا لا نتحمس كثيراً للدفاع قانونياً عن قضايانا العادلة ( باستثناء تجربة طابا ). لا بأس على أى حال فهذه مبادرة تعاونية جديدة سيؤذن نجاحها بفتح آفاق التنمية لمساحة كبيرة من صحرائنا غير المستغّلة حاليا يُقَدِّر عدد الألغام المزروعة فيها بأكثر من عشرين مليون لغم. فهل يُقَدِّر لوزارة التعاون الدولى ان تمضى فى هذه المبادرة لنهايتها السعيدة أم تظل محاولتها مثل الكثير من مبادراتنا قصيرة النفس غائبة الهمّة نطلقها فى حماسة مفاجئة ثم سرعان ما يطويها النسيان ؟ قالوا.. إذا اشتريت ما هو غير ضروريّ ، فستبيعُ قريباً ما هو ضروريّ لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم