كتب- طارق عامر: استدعت المناقشات المؤسسية والمجتمعية, والحوارات الاعلامية الجارية حاليا في مصر بعد ثورة يناير2011 بشأن العلاقة الملتبسة بين تحقيق العدالة الإجتماعية كأحد أهم أهداف الثورة وبين الحدود الدنيا والقصوي للأجور والدخول للعاملين بالدولة والقطاعين العام والخاص. العديد من مواقف الماضي والذكريات الذاتية, منها القريب نسبيا, كما حدث حين زارني مسئول دولي كبير بشركةIBM العالمية كنت قد دعوته في بداية رئاستي للبنك الأهلي المصري لأستشيره حول استراتيجية التطوير التكنولوجي بالبنك, حيث بادرني قائلا: ليس المهم المعدات المتطورة والبرامج التي يتم الاستثمار فيها, ولكن الأهم هل تستطيعون تغيير وتطوير ثقافة وسلوكيات العمل للموظفين في المؤسسة؟... إن هذا هو التحدي الأكبر. لقد كانت تجربة التغيير الكبير والإصلاح المؤسسي بالبنك من أقوي التجارب وكثرها إثراءا في إدارة المؤسسات الوطنية والعامة, وهي تجربة عملية تمت في أعماق مجتمع الأعمال والإدارة والمؤسسات المصرية, لرؤية وفهم جذور المشاكل والمعوقات والتحديات التي تواجهها الدولة, والاقتصاد المصري ومعوقات التنمية والتقدم حيث تمثل تلك المؤسسات الأساس الراسخ لها. ولقد أيقنت حينذاك إن مصر لن تتغير وتتقدم إلي الأمام إلا إذا تغير المجتمع ونبذ أفكارا وثقافات خاطئة هي السبب في تأخرنا واستمرار معاناتنا. ولقد أفادت تجربة عملي نائبا لمحافظ البنك المركزي المصري في تأكيد يقيني بأن واضعي السياسة, إن لم يكونوا علي دراية كاملة بتفاصيل أمور وعلاقات العمل علي أرض الواقع, وعلي صلة وثيقة بأحداث ومجريات السوق, سيعرضون قراراتهم للفشل والانفصال عن الواقع. فنحن في مصر ندير أمور الأعمال والسياسة والاقتصاد, بل ومجريات الحياه اليومية بأسلوب يؤكد أن العمل الجماعي ليس من ثقافات المجتمع المصري, إنما فقط العمل الفردي الذي أصبح لا يجدي الآن في عالمنا الحاضر, ولا يضيف فائدة ولا نفعا إلا ربما علي صاحبه وللأمد القصير فقط, ومن ثم يتم اتخاذ غالبية القرارات بدون التشاور الكافي مع أصحاب الشأن. ودرج المجتمع المصري علي فكر خاطئ هو أن المسئول الأعلي هو الأكثر علما والأعمق دراية, وهي فكرة شديدة الخطورة, تذكرني بمقولة ذات مغذي لأحد قادة الإدارة الناجحين خلال القرن العشرين جاك والسن الرئيس السابق لشركة جنرال إلكتريك حين أكد: أن القائد أو الرئيس الناجح هو الذي يطرح الأسئلة ولا يعطي الإجابات. وإذا كنت أفتخر مثلي مثل كثيرين بتحصيلي العلم والخبرة المهنية علي أيدي أكاديميين وخبراء أجانب, فإنني لا أدري ما العيب الذي يراه البعض في ذلك, فالعيب في انعدام العلم ونقص الخبرة وليس في مصدر العلم أو ناقل الخبرة. بل أن هناك العديد من المشاهدات التي تدل علي ثقافة خاطئة في المجتمع المصري تعادي كل ما يأتي من الغرب, وأذكر ذلك عندما أسمع خطيب الجمعة كل جمعة وفي أي مسجد يسب ويدعو الله أن يخسف الأرض بالغرب( الكافر) كله بناسه, وبعلومه, وفنونه, وآدابه, وكم كنت أود بدلا من ذلك أن يدعو الله أن تقوم دولتنا وتتقدم مثل ما تقدم هذا العالم بدون التنازل عن انتمائنا الوطني لمصر وعن تمسكنا بثقافتنا العربية الإسلامية وبأصول ديننا الجميل الذي هو أعظم ما علي الأرض إذا فهمناه المفهوم الصحيح. وأتذكر أيضا عندما كان عمي عبد المنعم عامر يجلس في أرضه الزراعية ويقرأ كتب البحوث الزراعية والبستانية ليتعلم كان الفلاحون يتندرون عليه أنه يتعلم الزراعة من الكتب, فلا أجد فرقا كبيرا بين ما يحدث اليوم من نبذ للعلم والفكر السليم, وما كان يفعله المزارع الأمي الذي يعتبر الكتاب أضحوكة ولا فائدة له. وعندما دخلت البنك الأهلي وتوليت مسئولية رئاسته كان من الممكن أن أترك المياه الراكدة, وبالتالي لا أسبب إزعاجا لأحد ويستمر البنك في مسيرته العادية إلي أن يأتي يوم خروجي علي المعاش ككل من سبقوني بدون أي مضايقات أو منازعات أو صدامات, وأديره بذات فكر القطاع العام البيروقراطي القائم علي إدارة الموارد البشرية كلها ككتلة واحدة, صاحب الكفاءة والمتكاسل وغير الكفء, والذي ينجز والذي لا ينجز, جميعهم سواسية, ويعاملون معاملة واحدة, وهو الفكر والأسلوب الذي كان من نتيجته أن تدهورت الخدمات المصرفية المقدمة لأكثر من5 ملايين مواطن من عملاء البنك, كانوا يعانون أشد المعاناة, وأيضا تدهور مناخ العمل لنحو12000 موظف, كان منهم من يكاد يختنق من شدة الحرارة في الصيف, ومنهم من لا يجد نافذة يري منها أو يشتم بعض الهواء النظيف, وهم مكدسون في الإدارات وفي فروع متهالكة... إلخ. وتراجع النصيب السوقي للبنك من30% إلي23% متكبدا خسائر متراكمة بأكثر من25 مليار جنيه. وبدأنا التفكير لتطوير البنك برؤية متسعة لا تحدها أفاق للتطور.وحقيقة كانت رؤيتي قد تأثرت بوالدي المهندس حسن عامر رحمة الله عليه, فقد كان لديه دائما رؤية واسعة وبعيدة المدي, وكان أيضا لديه كفاءة كبيرة في تحويل رؤيته هذه إلي واقع ملموس بكفاءته الإدارية الهائلة والمنضبطة, سواء عندما كان مسئولا عن قطاع النقل البحري لمدة عامين فقط( حيث فقد العمل بسبب وقوفه بحسم ضد صفقة كبيرة كان المستفيدين فيها أعلي رؤوس في الدولة فتم إحالته إلي المعاش للمرة الثالثة ولم يكن قد تجاوز عمره حينذاك50 عاما), أو قبلها عندما حقق نجاحا هائلا في قيادة قطاع البترول واكتشف أكبر حقول مصر التي لازالت تنتج إلي الآن, وكان أول من عقد اتفاقية التنمية مع الجانب الأمريكي, ووضع الأساس لاتفاقيات البحث والامتياز التي لا زالت سارية إلي الآن, أو حينما قاد التصنيع في الستينيات مع جيله من الوزراء والمهندسين والعلماء, وأنشأ مصانع الإسمنت التي كنا نصدر فائض إنتاجها للخارج ونحن نبني السد العالي ونشيد مئات المصانع والمدارس وآلاف المساكن والطرق وعشرات الكباري والجسور والمستشفيات والوحدات الصحية. وفي نفس الوقت عندما أقرأ عشرات الملفات عن الصناعات الحربية المتقدمة التي كان والدي أحد خمسة أعضاء لمجلس إدارتها, وكان اسمها الهيئة المصرية العامة للطيران, قامت في الفترة من1960 إلي1967 بتصنيع مصري لعدد38 طائرة مقاتلة, وتصنيع الصواريخ الطويلة المدي, حيث استعانوا بأكثر من350 خبير أجنبي في الطيران والتصنيع الحربي, علي رأسهم العالم الألمانيMesserSchmidt الذي سميت أشهر طائرة ألمانية في الحرب العالمية الثانية باسمه. بما يشير إلي مدي الجهد العلمي الكبير والفكر البعيد المدي والكفاءة المنقطعة النظير في التنفيذ الذين تبناهم والدي وعمي المشير عبد الحكيم عامر. وللأسف تم تدمير المصانع الحربية الثلاث المتخصصة في إنتاج الطائرات والصواريخ, بعد المأساة التي أطاحت بعائلتنا كلها في1967 بل وبمصر أيضا. واستلهاما لتلك الخلفية والتجربة الحياتية الثرية بدأت وزملائي بالبنك الأهلي القيام بعملية نهضة شاملة, ليس فقط لإعادة هيكلة البنك, ولكن أيضا لوضعه في مصاف البنوك الرائدة في المنطقة والمنافسة إقليميا, ثم بعد ذلك علي نطاق أوسع عالميا. ولكن من أجل تحقيق ذلك كانت هناك متطلبات عدة, وتحديات كبري شديدة الصعوبة, لعل أهم هذه المتطلبات: فريق إدارة علي أعلي مستوي لإصلاح المؤسسة, وإعادة هيكلتها بالكامل, وتحديث بنيتها الأساسية التي ترهلت, وإعادة تماسك المؤسسة وقدرتها علي العمل والأداء, والاستجابة لمتطلبات العصر. إعادة الهيكلة المالية للبنك الذي فقد كامل حقوق المساهمين ورأسماله مرتين حتي يستطيع أن يكون متوافقا مع المتطلبات الرقابية للبنوك المركزية لضمان ملاءته المالية. التحرر من لوائح وقوانين مقيدة للقطاع العام التي أغرقته علي مدي عشرات السنوات, وكبلته ليصبح غير قادر علي اتخاذ أصغر القرارات في حين نحتاج في عملية الإصلاح لقرارات ثورية. تدبير مصادر مالية مع التحلي بجرأة إدارية لاستثمار أكثر من800 مليون جنيه في تكنولوجيا المعلومات لتحديثها والاستعانة بالخبرات الأجنبية المتميزة في هذا المجال لإعادة بناء البنية التحتية التكنولوجية للمؤسسة. تدريب وإعادة تأهيل12000 موظف علي رأس العمل, والاستعانة بنحو4000 موظف آخرين لضخ دماء جديدة, في ظل إعادة هيكلة كاملة للموارد البشرية وأسلوب إدارة العاملين, ووضع نظم حديثة لتحقيق المستهدفات, وتقييم الأداء الفعلي, ووضع نظام حوافز طموح يحفز علي الإجادة والتميز والإنجاز النوعي السريع. إعادة هيكلة كاملة لعقل البنك وعموده الفقري وهو المركز الرئيسي, وإلحاق أكثر من350 مدير ومدير عام به لإعادة ترتيب وتنسيق أسلوب العمل, وتأسيس وحدات تنظيمية جديدة بالكامل لتواكب النظم المصرفية المتطورة. تطهير أخطاء الماضي وسوءاته من خسائر وديون رديئة ومتعثرة, وحل المشاكل القائمة عن طريق اتخاذ قرارات جريئة حاسمة بشأنها لكي ينطلق البنك إلي أمام ونتخطي هذه الكارثة. ووجدنا كذلك أنه مطلوب تنفيذ أكثر من مائة وعشرون مشروع إصلاحي بالبنك تشمل كافة النظم المصرفية والإدارية والتنظيمية والخدمات المساعدة, وجاري العمل بهم والنتائج يعتبرها الخبراء بالداخل والخارج أكثر من مذهلة. لقد استطاع البنك في العام الأول فقط(2009/2008) أن يغلق فجوة الخسائر البالغة12 مليار جنيه, بكفاءة فريق العمل الجديد وقدراتهم الفنية والإدارية الكبيرة, وكذلك النجاح في زيادة ميزانية البنك وأصوله بمبلغ100 مليار جنيه في3 سنوات, وهو ما يعتبر معجزة في العرف المصرفي, محققا بذلك أرباحا زادت من380 مليون جنيه إلي4 مليارات جنيه قبل الضرائب خلال نفس الفترة, ولأول مرة منذ سنوات طويلة يتمكن البنك من توريد أرباح للخزانة العامة للدولة. وتلك الإنجازات الهائلة لم يكن لها أن تتحقق لولا أن استعنا بأكفأ المصرفيين المصريين, وأعطيناهم الدعم المعنوي والإداري واللوجيستي, وأيضا اجتذبناهم من بنوك القطاع الخاص بمنحهم الرواتب التي يستحقونها وتتناسب مع زملائهم في القطاع المصرفي الأجنبي والخاص في مصر. والآن وبعد هذه الإنجازات نجد من يتحدث عن قرارات تتعلق بالحد الأقصي للدخل, وهي قرارات تعسفية غير مدروسة لا تدرك التداعيات التي سوف تترتب عليها حين يتم التدخل في أجور العاملين بالبنوك العامة بنفس منهاجية التدخل في القطاع الحكومي العام والهيئات والمصالح الحكومية الأخري, وها الفكر المغالي فيه يهدف فقط لإرضاء الرأي العام علي حساب المصلحة العامة. فإدراج المؤسسات المصرفية المملوكة للدولة إلي هذه القرارات المقيدة من شأنه تقويض كل ما تم وهروب الكفاءات من البنوك العامة. والسؤال البديهي الآن; هل هذا يصب في مصلحة البلد؟ هل هجرة القيادات ومسئولي الإدارات العليا للبنوك في مصلحة الاقتصاد القومي والبنوك العامة التي سوف تشهد تراجعا حادا مرة أخري بعد أن أوشكت علي الخروج النهائي من مأساة كبري أوشكت أن تأخذ البلد والاقتصاد إلي حافة الانهيار؟؟! فلولا الإصلاح الذي تم في البنوك العامة التي حملت أعباء التنمية الاقتصادية, وتمويل تجارة مصر الدولية, وتمويل الاستثمارات الإنمائية لشركات القطاعين العام والخاص, لانهارت الأوضاع الاقتصادية والمالية إثر الأزمة السياسية والأمنية التي جاءت في خلفية ثورة يناير والتي طالت مدة الفترة الانتقالية التي تلتها لتستمر لما يقرب من عام ونصف حتي الآن.هل من أجل حفنة ملايين من رواتب تستحق هذه البنوك أن تخسر المليارات؟! فإذا كانت ميزانية البنك الأهلي قد أصبحت303 مليار جنيه في3 أعوام نتيجة الإصلاح الإداري والتنظيمي كما ذكرنا, فهل يتحمل المسئولون في البرلمان والحكومة إن بدأت الخسائر تصيب هذه الأصول الكبيرة من سوء إدارة ينتظرها بهروب الكوادر الإدارية التي تم الاستعانة بها, وتخسر من أموال المودعين وقد تتسبب في إخفاق مالي أكثر حدة وفقدان الاستقرار المالي والنقدي؟ فعلي سبيل المثال استطاعت الكفاءات المصرفية الجديدة ومديري التمويل المتخصصين الذين تم إلحاقهم بالبنك, ضخ حوالي80 مليار جنيه تمويلا جديدا في القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية للدولة كالكهرباء, والبترول, والطيران, والصناعات الثقيلة, ولكن الأهم من هذه الاستثمارات هو كيفية تخصيصها, وتوظيفها, والأسلوب العلمي المستخدم في ترتيب القروض طبقا للمعايير الدولية, بعد أن كانت تتم طبقا لمعايير محلية شديدة البدائية, واستخدام منهجية القروض المسوقة التي تشارك بها مجموعات البنوك معا للتأكيد علي سلامة القروض, وإدخال أحدث الأساليب العالمية للفحص النافي للجهالة, واستخدام أعلي مستوي من مستندات الدين, وعقود القروض, وشروط تمويل المشروعات التي لم تكن علي هذا المستوي في مصر. إن سياسة المساواة غير العادلة بين الناجح والفاشل في الأجور وبين الجاد والمتكاسل في مستوي الدخل قد أدت أيضا إلي فساد مؤسسات القطاعين العام والخاص علي السواء, وللأسف فإن نفس هذه السياسات التي يحاول البعض إلصاقها بالاشتراكية, والتي تتسرب الآن تحت غطاء تحقيق هدف الثورة في العدالة الإجتماعية المنشودة, كانت قد أدت إلي الفساد, وسوف نكررها بأنفسنا مرة أخري, ونعيد الكرة, إن لم يتم إزالة ما يحيق بمفهوم العدالة الإجتماعية من إلتباس, ولكن هذه المرة لن تتحمل الدولة في حالتها الراهنة هذه الخسائر مرة أخري. إن المساواة المطلقة بين الناس ضد قانون الخالق والطبيعة, فالله الذي يهب من يشاء بغير حساب دونا عن آخرين, يهب أيضا الموهبة والعقل بشكل نسبي, كما أن سياسة الأجور في القطاع العام هي أهم العوامل التي أدت إلي انهيار القطاع العام وإلي السرقات والفساد, وحتي في البنوك العامة كيف نطلب من موظف في بنك مسئول عن مئات الملايين من الأموال, وراتبه لا يكفي احتياجاته, ولا يعصمه عن الغواية. والعجيب أنه في حين إن البنك المركزي الإنجليزي ومؤسسة الرقابة علي البنوك بهFSA وضعت توجيهات للبنوك بأهمية أن تكون رواتب المسئولين بالبنوك بالإدارات العليا والرئيسية عالية للمستوي الذي تستطيع معه اجتذاب أكفأ الخبرات لحماية المؤسسات المصرفية, أصبحنا نحن في مصر ولسخرية الأقدار نعمل عكس ذلك تماما, فبأي منطق نسير بعكس ما يحدث في العالم!؟ وكيف ذلك؟ لقد قمنا في البنك الأهلي ببناء نظام المؤسسة, ولم نقم بإدارتها بأسلوب تركيز السلطة والقرار الفوقي, فانطلقت المؤسسة, وتم حمايتها من قرارات فردية خطيرة, حيث استفدت شخصيا من دروس التاريخ, ونجحت في ذلك. فمتي تستفيد بلدي من دروس التاريخ حتي لا تتكرر الأخطاء؟