فى عصر شاع فيه فعل «الفَرّمْ»، يرابط على أعتاب الوطن شعبٌ رغم كل تروس الفرم التى عالجتهُ لم يزل متماسكاً، وترابط على كراسى الإدارة وجوه فرمتها لوائح البيروقراطية وقوانين التسكين وتعليمات الانسحاق، وبينهما ينجلى صوت ذاك العربجى المصرى صاحب الجذور فى مهنته، يتحدث عن علاقة «العربجى المِأَصَّلْ» بحصانه، كلاهما يشقى على مدى اليوم، غير أن للعربجى قلباً يجب أن يشعر وعقلاً رغم قِلَّةْ مكتسباته إلا إنه بخصوص حصانه حتما يجب أن يتنبه، إذن يكد العربجى سعياً وعيناه على حصانه الذى يشاركه الكد كما يقاسمه العائد، يتصبب العرق من جبين االعربجيب. ويبدأ فى الانهمار على بدن الحصان، تبدأ الإشارة الصفراء فى الإضاءة منذرة بضرورة أن يحصل الحصان على قسط من الراحة حتى لا يدخل فى دائرة الخطر، ولكن الحاجة والغلاء ومطاردة الرزق قد تدفع بالعربجى إلى تجاهل عرق الحصان والاستمرار، وهنا تضيء اللمبة الحمراء مع تصبب عرق الحصان ليتحول إلى سائل رغوى أبيض يكسو بدنه ويعلن المظهر الخارجى أن الحصان «صَبَّنْ»، وساعتها يجب على «العربجي» أن يتسم بالعقل حتى لا يفقد حصانه، وأن يتحلى بالرحمة فيحل الحصان من العربة، ويبدأ فى مسح عرقة عبر كشطه ب «صفيحة منشار» وتنشيف بدنه بخرقة يخصصها لهذه المهام، ثم يصحبه فى رحلة تمشية -دَنْجَلَةْ- حتى يهدأ بدن الحصان ليقوى على مواصلة الرحلة مع صاحبه العربجى ليصارعا معاً أسباب البقاء والرزق. فى حكِيّ العربجى المصرى على أعتاب الواقع مساحات من وجع تفرش وجه مصر والمصريين، أوجاع هائلة تحاصر البدن المصري، ويرفض النسيج الإدارى للوطن أن يلمحها بعين ذلك «العربجى المِأَصّلْ»، فكل إشارت الشعب الكادح تؤكد أن لونها تحول إلى الأحمر القانى منذ سنوات، والعرق المتصبب بات يلجم الأفواه أن تصرخ ويقيد العيون فلا ترى أفقاً ويصم الآذان فلا تسمع إلا أصوات صريخ المذيعين وكوارث يُسَوِقُهَا الكارهون والمتآمرون، ويَسُوُقها المبررون لليأس والمروجون للإحباط. «صَبَّنَ» الشعب منذ سنوات داخل مفرمة عقود الفساد والإفساد، وخرج منها فى 25 يناير 2011م، رافضاً التفتت رغم قسوة فعل الفرم، ومُواجِهاً شخوصا أنتجتها تلك العملية، عقول جديدة تم تخليقها فى مفرمة الفساد والإفساد، تتاجر فى كل شيٍء وأى شيء، وتدين بكل دين يفرض الكُرّهْ ويدعو إليه ويجاهد فى سبيله، ومع ذلك بقى فى عمق الشعب المصرى المرهَقْ، وتدٌ يربطه بجذور نمت عبر تاريخ الوجود لتربطه ب «طِيَبةَ» القديمة و«فسطاط» المعمورة، وقاهرة المعز وسيد درويش والشيخ مصطفى إسماعيل ومكرم عبيد. فى جذور الشعب الموجوع، فرع أصيل ربما يضعف لكنه لا يموت، إنه الهوية المصرية التى نمت منذ فجر التاريخ، تؤمن بالله خالقاً وبالوطن حِمَيً، وحين توهم الأمريكان والتنظيم الدولى وغيرهم أنهم قادرون على أن يمرروا الحكم للإخوان بعد إسقاط نظام مبارك باعتبارهم الوريث الوحيد الجاهز، تحفزت جذور الهوية لدى الشعب وبتحفزها تحصنت مؤسسات الدولة، واستطاعت الهوية المصرية أن تثبت أنها قادرة عما عجزت عنه أنظمة حكم تعاقبت على مصر منذ عام 1928م ذتاريخ نشأة تنظيم الإخوان- وحتى 2013م ذتاريخ إسقاط التنظيم وحكمه-، ولم تكن هَبَة الشعب الموجوع فعلاً عاطفيا وقتيا، ولكنه قام بترجمته عملياً، عبر مواقف عدة كان أبرزها وأكثرها جلاءً منحه «تحويشات العمر» فى أيام قلائل لتستحيل فى مجموعها مليارات تحفر امتدادا جديدا لقناة السويس. إنه شعب رغم غرقه فى عرق الكد والوجع يأبى إلا أن يجر عربة الوطن نحو غد طال انتظاره. فى مشهد الشعب السابح فى عرقه، منظومة إدارية عتيقة وقديمة ومترهلة، حِمْلٌ على ظهر الشعب ومن كلفه ليحمى الحمي، عقول تفكر بآلية «سَكِنْ تِسْلَم»، واستراتيجيات تعتمد رؤى الجُزُرِ المنعزلة، وخطط تفتقر إلى روح الإنجاز، وشخوص نمت على الرى بماء القصور فصار عصياً عليها أن تشعر بظمأ الحقول وعطش المرابطة فى الورش والمصانع وميادين العمل فى شمس صيف طال امتداده. فى قصص الجهاز الإدارى للوطن، عشرات الحكايات التى ترويها السير الوظيفية اليومية، عن مسئولين كبار يتفننون فى توريط النظام بانعزالهم عن طبيعة الاستهداف الموجه للدولة من جهة، وانفصالهم عن حقيقة المنجز الذى يستوجب التحقق قبل الإعلان من قبيل «المنْظَرة»، وحكايات عن مسئولين صغار أغراهم أداء كبار الموظفين بالعودة إلى عصور فساد طغت قيمها، وسادت صفقاتها، وصار الحضور تحت الطاولة أكثر زخماً من فوقها، وحكايات عن مواطنين صدمهم عبدة الروتين ورافعو شعار «أبجنى تجدنى» ومروجو وعود «فوت علينا بكرة يا مواطن»، وحكايات عن حاملى مباخر وكدابين زفة وتجار حرب جميعهم صنعوا ثقافة العصور التى سقطت، ونموا فيها وكرسوا لقيمها أحجاراً تجثم على صدور الناس كلما وقعت من رصة وسائل الإعلام بكل أشكالها. فى المشهد على أعتاب الوطن، يقف الشعب فرسا أصيلا، طال انتظاره لأن تَحسُن سياسيته، واهن القوى وحقه أن يصبح، لكنه على كل وهنِه، يركض فى ساحة الجيوش مدافعا وحاميا وبانيا، لا لشيء إلا لأنه فى هذه الساحة وجد من يسوس برؤية ويرعى بوعى ويراعى بقلب، وبالعودة إلى حديث «العربجى المِأَصّلْ» نسمعه يقول (كُنَّا أيام مبارك نصرخ حِلُونَا لأجل النبي، وفكينا منه فخبطنا فى حيط، وربنا قوانا عليه وهَدِينَاه، صحيح الشعب مِصَبِّنْ لكنه أصيل وحمول، وعلشان كده ما بيفكرش يستريح إنما نفسه فى سايس يسايسه، يسوق هوا ويعرفه رايحين على فين)، إنه مطلب شعبى باتت مهددا من قبل الجهاز الإدارى قبل أن يكون مهددا بأخطار كثيرة محدقة. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى