من نحن؟ سؤال طالما حاولت الإجابة عليه، وكلما فرضت جوابا أنكرت على نفسي الجواب.. تأملت عيون المصريين العابرين في الطرقات، والعرق يأكل قسماتهم النيلية الجميلة، وهمّ الحياة يبتلع تعبيرات وجوههم السمراء، تأملت عيون التائهين الجالسين على طاولات القهاوي يلتهمون أعمارهم ويقتلون الوعي؛ تلتهم الشيشة أبدانهم وأفلام العنف والثقافة أذهانهم حتى يعودوا – إن قدر لهم أن يعودوا – في نهاية المساء أشباحا تتراءى لها أشباح.. تأمل الموظفين على المكاتب الحكومية.. العاملين الكادحين يتأففون من العمل وكأنهم يتفضلون على وافدين غرباء عنهم لا على إخوتهم ومواطنيهم – رغم أنهم غرباء أيضا خارج دوائرهم – أما الفارغين مما لا عمل لهم، فأحاديث الرياضة والفن والطرب والصخب والهرب تملأ دواوين الفرغ في خرابة حياتهم ... وإلى جانب هذه الفئات، توجد فئة الموهوبين من أصحاب الياقات البيضاء، وأصحاب الأعمال، والفنانين، وأشباههم ممن يمعنون التمثيل في كل الأماكن؛ جميل للغاية أن تشاهد الممثلين السذج على مسرح الحياة؛ يمثلون وهم على مقاعدهم الوثيرة، ويمثلون وهم يقودون المركبات، ويمثلون وهم يسرعون في الكلام ويسرعون الخطأ حتى تتوهم أن لهم أهمية أو وزنا، ملعونة تلك النظارات السوداء التي تخفي عيون الأقزام وتسمح لها بحملقة حمقاء تخترق سجلا رماديا من الحيوات المسروقة.. إنهم يمثلون.. يمثلون .. يمثلون في مهرجانات الكلام، ومؤتمرات الكلام، وقمم الكلام، وخطط الكلام، وبرامج الكلام.. يمثلون بأموال الشعب ومقدرات الأمة في محافل التعمية والخرافة ومعارض فنون تشكيل اللاوعي!!! لقد طالت هواية التمثيل أيضا فئة عريضة من المسخ المصري المعاصر؛ وأتت على ذهن كثير من المثقفين أصالة أو انتسابا، فحشر الكلمات الأجنبية في ثنايا الحديث بالعربية حذلقة محببة لدى جمهور المثقفين دلالة على معرفة اللغات، كما أن الاستشهاد بأسماء مفكرين أو علماء لاتينيين أمر يشير إلى إلمام مهندم بثقافات الأممالقاهرة المستبدة، ولقد ضحكت من أحد وزراء التعليم وهو يتحدث منذ سنوات في أحد البرامج التلفزيونية عن أهمية اللغة العربية ودورها ثم ما لبث في البرنامج أن نسي اللغة وأخذ يقحم الكلمات الإنجليزية في حديثه عن "سيكولوجية المتعلم" وأهمية "الكواليتي"... وهناك في الجامعة تجد محيطا غير متجانس يعبر عن مسخ ثقافي، لا شرقي ولا غربي، فنموذج "الفرافير" و"الخنافس" و"المُودَة" و"الشِلل" و"الصخب" يصيح معلنا عن وجوده؛ حيث تترجل النساء ويتخنث الشباب إضافة لما هو معروف من تداعيات على ذلك، ويحاول العديد من الفئات المختنقة الانتساب إلى جيل الفرفشة والدردشة، بينما يحاول البعض المرور عبر خندق الجامعة بأقل تكلفة، وتقف طائفة على سلم الديانة تعبر عن نفسها بانتماء حركي للتيار الإسلامي أو انتماء عقدي سلوكي من خلال المظهر الديني المميز في اللباس والشكل لا يخترق جوهر الدين، ولا يدرك رسالته، ولا يبلغ مراميه. ولا يمكن القول بأن هذا ثراء ثقافي وحضاري حيث إن هذه الأجناس لا تنسجم بل تمثل نسيجا مفتتا غريبا ومختلفا، بل لا أشك أنها هلهلة اجتماعية تعبر عن أطلال أمة محطمة الملامح تفتقد للتميز وتحتاج لبعث جديد أو مرثية جنائزية. أدى ضياع الهوية الثقافية والحضارية إلى نتائج خطيرة في الخيارات الحياتية للشعب المصري؛ وفرض ضياع الهوية الكثير من التنازلات وصار المصريون يعانون وطن الشتات على ضفتي النهر الذي وحدهم من آلاف السنين؛ وضياع الهوية يفرض نوعا من التوائم الحرباوي على المستضعفين، ويجعلهم يعيشون دائما في "ظل" السيد؛ ومن ثَم فالطالب يجيب في الامتحان حسب ما يظن أن أستاذه يريده، والمرءوس في العمل يجيب دومًا بما يرى أن رئيسه يراه، والأمر ينطبق على كثير من المواقف في الإدارات العملية والسلوكيات الاجتماعية، فغياب الهوية يفرض نوعا من التملق والمداراة حتى في أتفه المواقف، ومن ثم صار الكبير دوما على حق وبصيرة، فلم يعد هناك مخطئ ولا أعور مغرور، ولله در فرحات إلياس: وإني لمطبوع على الصدق جاهر *** بآياته والنصل في النطع يقطر أقول لذي العينين: إنك مبصر *** وللأعور المغرور: إنك أعور وكم هم كثير المصابون بالعور ويظنون أنهم أهل البصر والبصيرة!! يشكل غياب الهوية تغييبا للعقل الفردي، ومن ثم العقل الإبداعي للأمة، كما يفرض هذا الغياب أنماطا من السلوك يمكن أن يرجع بها الكتاب إلى العديد من الأسباب الأخرى؛ فظاهرة زواج المصريين من إسرائيليات، وظاهرة قوارب الموت، وتسريب الامتحانات، والفساد الإداري، والمماطلات المعقدة في إنهاء الإجراءات، وطقوس الزواج والمكدسات الصينية والكورية الضرورية للغاية لنشأة أسرة مصرية جديدة بمطبخ "شيك" وعصري، وغيرها من الظواهر تعود في حقيقة الأمر إلى حالة من غياب الهوية، والتي خلقت مناخا من عدم الوعي وعدم الانتماء؛ حيث إن الشعور بالهوية هو ثمرة الوعي وأرومة الانتماء. ساهم ضياع الهوية في انتحار الشخصية العامة للأمة فكرا وسلوكا وقيادة، فصارت الشخصية المصرية مستعدة للذوبان في غيرها؛ فالمصري يتواءم حيثما كان عن يقظة أو عفوية مع المحيط الذي يعيش فيه؛ ومن ثم يردد أقواله ويمارس أفعاله، ويذوب فيه دون وعي بنموذجه الذي عاش عليه سنين عديدة، كأنه كان نائما ثم استيقظ أو جنينا واتته ساعة الولادة أو سجينا وافته لحظة فك القيد .. فإذا ذهب المصري إلى الخليج مثلا تلون بفكر سلوكي وديني خليجي، فعاد يحدثك عن وجوب اللحية وتحريم زيارة ضرائح الأولياء وأنواع التوحيد، وكأنه كان على الشرك في مصر ورسا هناك على شاطىء الإيمان النفطي... أما إذا ألقت به رحاله إلى الغرب الأوربي فهو على عهد الغرب، يعاقر المسكرات، ويضاجع الحسناوات، فكأنه منهم ما خلا لونه الأسمر وملامحه النيلية تأبى فضح سره المكنون وماضيه المسجون. إنها حالة من الانتحار تسود الشخصية الأصيلة للأمة المصرية التي كانت عبر العصور نموذجا حضاريا فاضلا، فإذا حاولت الآن الإجابة عن السؤال الملح: من نحن؟ رجع صدى الصوت من أعماق بحار الصمت.. لا شيء!! من اليسير القول أن هذا الضرب من التحايل ذكاء اجتماعي؛ ولكن هناك فارق كبير بين الذكاء الاجتماعي وبين النفاق السلوكي المعلن واللاديني واللأخلاقي!! لقد انفرط عقد الشخصية الجماعية "النموذج"، فلم يعد من الممكن التعبير عن المصري بشيء ثقافي، وتظل اصطلاحات "غلابة" و"أولاد البلد" و"طيبين" و "جدعان" و"رجالة" [ولّا وعملوها الرجالة!!] شارات تائهة لا تعبر عن نموذج حضاري بل عن شعور عاطفي أو مستوى مادي. وهنا تقع المسئولية على الكتاب والعلماء والمثقفين والمعلمين والصحفيين في آنٍ – ممن يعرفون جوهر الهوية المصرية والتي تنبع من اللغة العربية والثقافة الإسلامية والتي استوعبت أصالة الإسلام الممتدة منذ بدء الخليقة حتى اليوم وثقافة العالم، غزاة كانوا أم إخوة دين، من كنعانيين وإغريق وبطالمة وبيزنطيين ورومان وأتراك وأوربيين – أن يعملوا حثيثا على وضع المنظومة التي يمكن أن تعود بالأمة لهويتها. والانقسام المصري حول الأجندة الوطنية والأهداف الاستراتيجية، ذلك الانقسام اللأخلاقي واللاقيمي واللانساني تحزن مشاهده كل إنسان صالح – بله المواطن المحب - في هذا الحياة، إنما جاء معبرا عن تلك الفجوات الكبيرة بين أنماط السلوك والقناعات والفراغات العميقة بين مصادر التربية والقيم عند الشعب؛ فهناك فئات مترنحة في أحضان الغرب وأخرى عميقة الصلة بالعروبة والإسلام وثالثة لا هم لها سوى البطن والفرج ورابعة لا ترى أي هدف أو قيمة وراء مصالحها الدنيوية ولذاتها وأموالها وجاهها المكذوب، والمحصلة: شعب ينتحر بحثا عن هوية. اليوم على وزارات التربية والتعليم العالي والثقافة والإعلام والأوقاف – والتي يهدم بعضها بعضا –عمل خطة موحدة لمنظومة الهوية العربية الإسلامية التي تميزت بها الشخصية المصرية، وعليهم صناعة برنامج واقعي يجب أن يدعونه “صناعة القيم” حتى يبينوا لنا ما هي معايير القيمة، وعليهم أن يلتزموا بذلك قولا وفعلا، فيجب أن يكون عملهم في تناغم لا تنافر، فمثلا يدعوا السادة الشيوخ والدعاة إلى الشيء بينما تدعوا قنوات الإعلام إلى النقيض أو تمثل سلوكياتهم عكس ذلك كما نراه في الواقع المعاصر، وهناك العديد من التناقضات القيمية المعلومة للجميع التي تسفك باسمها الدماء وتنتهك باسمها الأعراض وتسجن بها الحريات ويباح بها التمييز الطائفي بين المواطنين على أرض مصر. وهو ما يشكل لونا آخرَ من ضياع الهوية، والانتحار المباشر للأمة.... وحتى يأذن الله بولادة هذا التناغم المخطط له – ولا أحسبه يحدث - تظل الأمة في حالة من الانتحار بحثا عن هوية غائبة لم يستطع الزارعون أن يغرسوا شجرتها ولم تدع ظروف الحياة للقلوب فرصة حتى تتذوقها ناهيك عن الدفاع عنها!