لعل زمنا يناهز العشرين عاما مر الآن، منذ سمعت هذه الجملة الشعرية لأول مرة "الجحيم غرف من المرايا" من الصديق الشاعر خالد ابو بكر، في فترة الدراسة بالجامعة في المنصورة، الذي غالبا ما كان يقرأ عليّ، آنذاك، قصائده كلما انتهي من أي منها. ترددت هذه الجملة في سمعي طويلا، وحرصت علي قراءتها والبحث عنها بعد سنوات؛ حين نشر ديوانه الوحيد "كرحم غابة" في سلسلة "الكتاب الأول"، واستعدت وقعها كما كان لأول مرة. لم يكن إعجابي بها يعود لكونها لعب عكسي علي مقولة سارتر "الجحيم هو الآخرون"، فقط، بل وأيضا بسبب تخيلي للصورة، ويقيني بأن أصحاب الأسئلة المؤرقة عن العالم والحياة وموقع الذات في هذا العالم هم من يعيشون جحيما حقيقيا في مواجهة ذاتهم ومحاولة التعرف عليها. كانت الصورة الشعرية تستدعي صورة ذهنية لفرد يقف في غرفة؛ جدرانها وسقفها كله من المرايا، حيث يري الفرد نفسه محاطا بصوره، وجها وجسدا، تلاحقه من كل الاتجاهات، فيما تتراقص ألسنة اللهب من حوله مصفرّة، فاقع لونها، مصحوبة بأزيز وهسيس صاخبيْن. عدت وتذكرت الصورة الشعرية، مرة أخري، حين كنت أقرأ وصفاً بديعاً كتبته الصديقة الشاعرة إيمان مرسال تصف فيه إحساسها حين تنطق الكلمة اللاتينية Architecture، حيث تقول "لحظة نطقي للكلمة ترجرجرت، خيل إلي ان مسجدا أمويا بالتحديد ينهار في مكان ما، وأن صوت زجاج شبابيكه المتكسرة يخرج مع صوتي". وجدت ضالتي في وصف مرسال لما كنت أشعر أنا به، حين أتخيل الصورة الشعرية المبتدعة من خالد ابو بكر، ويمكنني أن أضيف إليها صوت ارتطام ثريا عملاقة، بعد أن تهوي من شاهق سماء المسجد لترتطم بأرض مرمرية مدوية بمزيج من أصوات هشيم وصليل. اظن أن هذا هو تقريبا ما يمكن أن يسمعه شخص قرر أن يتوقف في جحيم مراياه الذاتية، وهو عذاب يبدو لي أن أحدا هنا، في ثقافتنا المصرية يمكن أن يطيقه أو يقبله، من الأساس. منذ فترة طويلة وخلال سنوات كنت ألاحظ أن كل من أتبادل معهم الحديث، من دوائر الأصدقاء المقربين والأبعد من بينهم، ثم الدوائر العائلية ودوائر الزملاء وسواهم من العابرين وحتي ، بل وطبعا، سائقي التاكسي، جميعا يرصدون مواضع الفساد هنا وهناك، ويوجهون اللوم والنقد والانتقاد إلي خلق الله جميعا، لكن أحداً، شخصا واحدا فقط، لا يري أنه طرف في هذه الدوائر الفاسدة التي تحيط بنا في كل مكان. وكنت أسأل اذا لم يكن هناك أحد متسببا في الفساد فمن أين جاء إذن؟ واليوم وبعد ما يزيد علي عام ونصف العام منذ اندلاع ثورة 25 يناير، وهي الفترة التي يفترض أن المجتمع يحاول الانتقال خلالها من مظاهر التكبيل العقلي والذهني والاجتماعي إلي مجتمع جديد يبتغي الحرية والتحرر من كل ما كبّله، أتأمل ما يقال هنا وهناك وأجد النغمة ذاتها، مجتمع كل فرد فيه قادر علي انتقاد كامل أطراف المجتمع الآخرين باستثنائه، مع نزعة ديكتاتورية لا تحتمل الاختلاف.. كيف يمكن تفسير ذلك؟ حبو علي درجات الديمقراطية الأولي؟ ربما. تشتت لمفاهيم الحرية والديمقراطية في مجتمع كُبِّل وعطلت طاقاته حتي فقد قدراته وحين أفلت نفسه انطلق يتخبط في كل ما حوله؟ وارد ايضا. لكني لا أظن ذلك قد يكون التفسير الوحيد لأنني علي يقين من أن فكرة عدم انتقاد ومراجعة الفرد لنفسه في المجتمع المصري، وربما المجتمع العربي تعود، علي نحو ما، لغياب الإحساس بالمسئولية، فالفرد لا يشعر بمسئوليته تجاه ما يحدث حوله في مجتمع مشلول الإرادة، فيحيل ما يراه من تدهور إلي غيره، حتي بعد الثورة، لكنه لا يضع نفسه موضع سؤال أو احتمال لأن يكون قد أسهم ، ولو من دون وعي أو قصد، في هذا الخراب المقيم حولنا من كل مكان أو في السلبيات العديدة التي تسم مجتمعنا وسلوكياتنا علي السواء. فهو لا يمكن مثلا أن يقيّم ذاته، أو يراجعها، أو أن يراجع، حتي، أية سمات سلبية في كفاءة أدائه في عمله أو في سلوكياته. بل العكس فهناك ثمة إلحاح مغرور علي أن الذات التي يجسدها يجانبها غالبا ما يعتقد أنه الصواب الأوحد والوحيد. علي سبيل المثال لسنوات كانت الإشارة الحمراء علي مفارق الطرق في مصر لا تعني شيئا مما يعرفه العالم عن هذه العلامة الدولية المتعارف عليها عالميا؛ فطالما الطريق خالية لا يمكن لأحد أن يتوقف، بل والعكس فقد يتعرض المتوقف للاستهجان ووصفه بالبلاهة لأنه يقف والطريق خال حتي لو كانت الإشارة حمراء! وهو مثال واحد من سلسلة بلا نهاية من سلوكيات تفتقد الحد الأدني من الإحساس بالمسؤولية. وإذا أردنا مراقبة فكرة المراجعة الذاتية ومدي ترسخها في ثقافتنا فيمكننا أن نتأمل الفكرة، بشكل ما، في السير الذاتية ، والتي سنلاحظ بلا جهد كبير أن غالبيتها ليست سوي سرد لمواضع ومحطات في تاريخ صاحب السيرة، لكنها لا تقدم نقدا ذاتيا علي أي نحو أو استبطانات عميقة للنوازع الداخلية والهواجس، وإن حدث كما في سيرة لويس عوض فسوف تستهجن مع الأخذ في الاعتبار أن النقد الذي قام به لويس عوض وجه لشقيقه وافراد من عائلته. فالسيرة كما يكتبها المصريون هي محطات لحياة قديسين لا يأتيهم الباطل من اي مكان. وسرد من الذاكرة لوقائع مختارة بعناية لا موضع فيها لسلبية أو تقريظ أو مراجعة للذات بالمعني النقدي. وبالتأكيد هناك دوما استثناءات، وبينها مثلا ما يحضرني الآن عن سيرة الكاتب شريف حتاتة التي أظنها من السير الموضوعية القليلة، بل النادرة، التي تتحلي برغبة حقيقية في مكاشفة الذات وبالصدق، وبالشجاعة معا. من جهة أخري ، وعلي سبيل المثال، نجد الشخصية المصرية هي أقل أفراد الجاليات العربية اهتماما بما يدور خارج نطاقها، لأنها مكتفية بذاتها المتضخمة التي تعتقد وهما أنها مركز العالم، وصحافتها وإعلامها نموذج مثالي للتدليل علي وكشف مدي الإفراط في الاهتمام بالشأن المحلي فقط دون توجيه أي اهتمام لما يحدث خارج هذا العالم. وهي مفارقة تكشف كيف أنه بالرغم من كل هذا الاهتمام بالذات لكن لا يوجد مراجعة لها علي أي نحو. هذا الإحساس يأتي من نفس المنطق ممثلا في اللامسؤولية الفردية، من الفرد تجاه نفسه، وبالتالي يصبح الانسياق خلف الصور التي يقدمها له الإعلام حلا سهلا، فهو لا يتوقف ليسأل نفسه عن مدي تواؤم هذه الصور مع الواقع، حين يقال له إن مصر رائدة في هذا وذاك رغم أن الواقع يقول إنها منهارة في هذا وذاك وغيره، لكن ما تولّده تلك الصور من أوهام يتماهي الفرد معها فتصطحبه بالضرورة نزعة من الغرور علي غير أساس، تمتد لاحقا بحيث يصبح الفرد غير قادر علي تمييز الواقع، (دون كيشوت مصري بامتياز) يفتقد القدرة علي التحقق من خلق رغباته الأصيلة بل يستسهل التقليد للنماذج الجاهزة. ويقال إن الغرب أخفق لمدة قرن كامل في قراءة دون كيشوت باعتباره شخصا نبيلا دون الوعي بأنه نموذج للشخص المقلد لرغبات الآخر بامتياز. في مثل هذه الظروف يمكن أن نفهم بسهولة كيف يمكن تجييش آلاف من البشر الذين يؤمنون بفكر جماعة مثل جماعة الإخوان المسلمين مثلا، لماذا لا يكتفي الشخص بفكرة التدين والاستقامة، لماذا يربط فكرته الدينية والعقيدية بفكر الجماعة؟ والإجابة يمكن أن نجدها إذا طرحنا سؤالا آخر عن مدي أصالة الرغبة لدي الفرد الملتزم بفكر هذه الجماعة، وأي جماعة في الحقيقة، هل بالفعل يرغب الفرد هنا في أن يكون متدينا صحيح العقيدة؟ وفقط؟ أي هل يقدم الفرد نفسه هنا كشخص نبيل مستعد لبذل نفسه؟ أظن أننا لو سألنا أي منتم للجماعة لأجاب بالإيجاب. وربما لو قدمنا نقدا أمامه للجماعة بوصفها جماعة ذات أهداف سلطوية لقاتل مستميتا في الدفاع عنها، ومع ذلك فسوف يفصل باستمرار بين كونه منتميا لها وبين أن ارتباطه بها أو عدمه لا يؤثر علي جوهر عقيدته وإيمانه. فبسبب هشاشة التكوين التعليمي والنفسي يصبح الفرد ميالا للبحث عن ايحاء من الوسط الخارجي، وهو هنا الجماعة، بدلا من الإيحاء الداخلي الذاتي لأنه مفقود. ولأن قيادات الإخوان بالضرورة علي معرفة بهذه الظاهرة فهي تستخدمها لإدارة التجييش والتكريس لمنطق السمع والطاعة باقتدار. لكن الفرد نفسه، من أعضاء الجماعة وأنصارها، سيظل ينكر تهمة الانقياد في خطابه، موهما ذاته أن الانتماء للجماعة يعني صحيح الإسلام بكل ما يعنيه ذلك لهذا الفرد، رغم أن كل ممارساته في طاعة الجماعة باستمرار تقول العكس، وهذا الإنكار يسميه الكاتب الفرنسي رينيه جيرار عرضا من أعراض "المغرور الستاندالي" نسبة إلي الكاتب الروائي الفرنسي ستاندال، والذي يعتقد أن شخصيات رواياته تعبر بامتياز عن ذلك النمط والذي يعرفه بالقول "يستعين المغرور الستاندالي غالبا لاخفاء الدور الأساسي الذي يؤديه الآخر في رغباته بالأفكار المبتذلة للإيديولوجيا السائدة ولذلك لا يري ستاندال خلف الورع والغيرية المتكلفة والالتزام المنافق اندفاعا نبيلا لانسان مستعد حقا لبذل نفسه، بل يري ملاذا قلقا لغرور في حالة ميئوس منها وحركة نحو الخارج ل"أنا" عاجزة عن الرغبة من تلقاء نفسها. وبشكل شخصي فإنني أجد الكثير من التماهي مع هذا التحليل للعديد من الشخصيات المنتمية للجماعات الدينية بشكل عام وللإخوان علي نحو خاص. خصوصا وأن الجماعة ومنذ تاريخ بعيد تركز علي الشباب المراهقين الذين تكون تكويناتهم الهشة أكثر قابلية لإيجاد وسيط يمكن تقليده مما لو تمت محاولة تجنيدهم وهم في مراحل عمرية أكبر وأكثر نضجا. ويأتي ذلك في إطار فكرة أكثر شمولية يوضحها جيرار قائلا:"نظن أننا أحرار ومستقلون في خياراتنا سواء في اختيار شخص ما أو غرض ما. هذا وهم رومانسي! الحقيقة أننا لا نختار إلا الأغراض التي يرغب فيها الآخر والتي تحفزها، في أغلب الاحيان، المشاعر الحديثة كما يسميها ستاندال، وهي ثمرة الغرور العام، وتتمثل في "الحسد والغيرة والكراهية العاجزة". وإذا كانت فكرة أن تكون الرغبة لدي الجمهور الكبير غير أصيلة، أو تعبر عن صورة يضعها الشخص لنفسه مستعيرا إياها من غيره، ثم يسير في طريقه المصنوع علي وحي تلك الصورة، وهذا يمكن فهمه لدي جمهور واسع يعاني من الأمية ومن إمكانات تعليم بسيطة ومناهج تعليمية غير منهجية ومن جهاز إعلامي قادر علي تخريب أي عقل متزن في العالم، فماذا عن النخبة؟ ماذا عن المثقفين؟ وحتي الشباب المتعلم تعليما جيدا أو حتي ممن أدرك مدي ركاكة المستوي التعليمي فطور معرفته بشكل ذاتي كما الغالبية العظمي من المثقفين في مصر؟ هل يتأمل هذا الفريق ذواته؟ إذا حاولنا الإجابة من خلال المنجز الثقافي المصري خلال العقد الأخير أو من خلال تأثير المثقف في المجتمع وفي المسار الاجتماعي والسياسي، فحدث ولا حرج، ولا أظن أننا أنجزنا إنتاجات فكرية أو فلسفية أو حتي أدبية مهمة بالمعني العميق الذي يتناسب مع مجتمع له تراث فكري وحضاري كبير مثل المجتمع المصري، لم يقدم احد جهدا أصيلا لافتا عميقا.