حكي الكاتب الأرجنتيني الشهير جورج لويس بورخيس1899 1986 في أحد كتبه حكاية رمزية عنوانها بورخيس وأنا, وهي حكاية تروي قصة حياته, وتحولها الي رواية خيالية يقول خلالها إنه يوجد داخل نفسه شخصان هما الشخص نفسه, هما بورخيس نفسه فهناك شخص بورخيس الكاتب المعروف, والأستاذ الجامعي الشخصية العامة ثم هناك شخص أنا البديل أو المماثل للذات الحقيقية, الذي يحب نثر روبرت لويس ستيفنسون( مؤلف رواية دكتور جيكل ومستر هايد). والذي يعتبر حياته ذات معني من خلال الكتابات التي يكتبها الكاتب بورخيس لكنه الذي لايتعرف إلي نفيسه إلا قليلا من خلال هذه الكتابات, في حين يجد نفسه اكثر في كتابات الأخرين, كما تحاول هذه الذات الحقيقية أن تحر نفسها من الذات الأخري( ذات بورخيس الكاتب المعروف اجتماعيا), وهكذا فإن حياتها تكون أشبه بسلسلة من عمليات الهروب وتنتهي هذه الحكاية الرمزية بجملة تقول: وهكذا فإنني لا أعرف أي شخص في أحد شوارع بوينس أيرس( عاصمة الأرجنتين) ويسأله: أنت بورخيس, أليس كذلك؟ فإنه كان يجيب: أحيانا ما أكونه. يشتمل جسم الإنسان علي كثير من الاعضاء المزدوجة أو ثنائية الطابع: الأذنين, الشفتين, الفكين, الكليتين, اليدين, القدمين, فتحتي الأنف, جانبي الوجه والجسم.. إلخ, كما ان مخ الإنسان نفسه يشتمل علي شقين أو نصفين شبه كرويين هما النصف الأيمن والنصف الأيسر ووفقا لدراسات العالم الأمريكي روجر سبيري التي حصل من خلالها علي جائزة نوبل في الطب فإن النصف الأيسر من المخ: ذو طابع متتابع متسلسل زمني يهتم بالتفاصيل واللغة والمنطق والدقة والانضباط, أما النصف الأيمن فهو: ذو طابع تزامني, يري ما يحدث خلال لحظة بعينها مثلما نري لوحة فنية بشكل إجمالي أولا ثم نري التفاصيل التي فيها بعد ذلك, وهو أي النصف الأيمن مجازي الطابع, استعاري التكوين, خيالي, إبداعي يهتم بالصور والانفعالات والحركة في المكان. ولكن ماعلاقة هذه الثنائية الخاصة بقسمي نصف المخ بموضوعنا الحالي عن الهوية والازدواج؟ عدا هذا الطابع التكويني البيولوجي والفسيولوجي المزدوج للمخ نعتقد ان التكوين الخاص بالمخ ذو علاقة وثيقة بموضوع الازدواجية ونحن نطرحها هنا كاحتمال ربما يحتاج إلي مزيد من البحوث والدراسات للتحقق منه وفحوي مانطرحه هنا مايلي: أن الذات الأولي التي تتشكل في مراحل مبكرة من حياة الفرد والتي تعيش حياة متتابعة متكررة ووفق آلية التكرار القهري وفي ضوء النظام الذي تفرضه علي نفسها والذي يفرض عليها بفعل عوامل مجتمعية( البيت المدرسة الوظيفة السلطة السياسية.. ألخ) هي ذات تجد نفسها في وقعت في أسر الآلية, والدقة, والانضباط, والتكرار فتفقد الشعور بوجودها الإنساني الحي هنا كي تنقذ ولابد لها شعوريا أو لاشعوريا من أن تخلق بديلا لها ذاتا أخري حميدة أو خبيثة هنا يجيء الدور علي النصف الأيمن من المخ, حيث يدخل هذا النصف بصوره ومجازاته واستعاراته وانفعالاته وقدراته الخاصة علي الحركة في المكان, قدراته علي الفرح أو الحزن علي الأمن أو الرعب, علي الاستثارة والخيال, فيقدم الي الذات الأولي, الذات اليسري, الذات الواقعية, تلك الواقعة في آلية التكرار والعود الأبدي بعض ماقد يساعدها علي الخروج من أسر الرتابة والمألوف. وحيث إننا نعرف أن نصفي المخ هذين ليس منفصلين أحدهما عن الآخر بل متصلان من خلال قنطرة أو جسر أو حزمة آلياف عصبية تسمي الجسم الجاسيء أو المقرن الأعظم فإننا نتوقع حدوث تفاعلي تبادلي متواصل بين هاتين الذاتين, الذات الأولي الواقعية والذات الثانية الخيالية وكلما كان هذا التفاعل متوازيا أمكن للذات الأولي( الواقعية) أن تسيطر علي الذات الثانية( الخيالية) لكن تلك الذات الثانية كثيرا ماتطلق لنفسها العنان أو تجد الذات الأولي انها غير قادرة أو لا ينبغي لها السيطرة عليها وهنا تذهب تلك الذات الثانية الخيالية المتخيلة( الأخري) بالذات الأولي إلي عوال الفن والإبداع, وتحقق لها ومن خلالها المستحيلات والغرائب هنا تكون هذه الذات الأخري وسيلة لتحقيق الذات الأولي, وكذلك للإنجاز والتحقق العام والخاص أما في حالات أخري فتذهب تلك الذات الثانية( البدائية الطابع غالبا) بالذات الأولي إلي عوالم الخوف والشر والجريمة والرعب والجنون وهذه العوالم هي التي اهتم بها الأدباء الروماتنتيكيون وغيرهم بشكل عام, وحاولوا من خلالها فهم تلك الطبيعة المزدوجة للمبدع خاصة وللإنسان بشكل عام كما انهم جسدوها في أعمال متميزة وربما كانوا هم أنفسهم يشعرون بمثل تلك الطبيعة المزدوجة لتكوينهم ونفسيتهم وذاتهم الأخري التي في داخلهم, وربما عبروا عنها في حالاتها القصوي من خلال أعمالهم, وربما كانت هذه الأعمال كذلك هي وسيلتهم التي قامت بحمايتهم من الوقوع في براثن المصير الذي وقعت فيه شخصياتهم: الخوف, والرعب, والجنون. ومثلما نجد في بعض المجتمعات ذلك الانقسام والصراع بين تيارات يمينية محافظة واخري وسطية, وثالثة يسارية, أو ليبرالية او اكثر ميلا الي التجديد والتغيير والتحرر, وكذلك ما قد يترتب عليه ذلك من انقطاع أو اضطراب في التواصل بين الفصائل والجماعات والتيارات التي يتكون منها هذا المجتمع أو ذاك كما هو حال المجتمع المصري الآن فإن الأمر هنا قد يصبح حالة اشبه ببعض الحالات المرضية خاصة العنف والعدوان الشديدة التي لايمكن إيقافها لدي بعض المرضي, والتي تقطع فيها الاتصالات العصبية التي بين نصفي المخ بواسطة بعض العمليات الجراحية وذلك لأن الاتصالات غير الايجابية وكذلك التناقضات في الرسائل المتبادلة بينهما قد تحدث اضطرابا وفوضي في فهم أحدهما لما يريده الآخر ومن ثم يحدث عجز النصف الأيسر المنطقي عن الفهم والتحكم والتنظيم لما يرسله النصف الأيمن من صور وانفعالات ورغبات قد يؤدي بدوره إلي عدم القدرة علي التحكم في الحركة والانفعالات هكذا يتراجع النصف الأيسر أو الذات الأولي عن القيام بدوره, ويصبح المهمان هو النصف الأيمن أو الذات الأخري البدائية الانفعالية المحلقة المهومة بلا ضوابط أو قيود, هنا يتم قطع حزمة الأعصاب الموصلة بين نصفي المخ هذين فماذا يحدث لهذا المريض انفعاليا؟ قد نجده ساكن في قاع الذات الأولي الرتيبة المتكررة الحركات والتفكير وأقرب الي الشخصيات المتوحدة أو المنعزلة حيث تسبب الاصابات والأمراض التي تلحق بالفرد أو حتي المجتمع مايسميه العلماء تفكك الشخصية كما قد نجد أيضا مايسمي بالشخصيات المنقسمة والمتعددة التي تظهر خلال حالات غياب العقل أو شروده,خلال هيمنة الخيال والانفعالات والحركة والجمود وتراجع دور المنطق والنظام ويعد التكامل بين هذين النصفين من المخ ودون أن يطغي احدهما علي الأخر الحالة المثالية وليس في الأدب أو الفن فقط. هكذا قد تشير الازدواجية هنا إلي ظاهرة إكلينيكية أو مرضية تتعلق بتعدد الهوية, انقسامها تعدد مستوياتها أو طبقاتها أو حالاتها مع وجود التناقض بين هذه الحالات والمستويات كما قد تشير إلي ظاهرة ثقافية ايضا تتعلق بالتعدد في الهوية الثقافية لكنه تعدد ينفتح هنا بذاته علي عالم الخبرات الخاصة بالآخرين تلك الخبرات التي قد تعزز الذات أو الهوية) وقد تطمسها وتمحوها أيضا. ومثلما ترتبط فكرة الحياة العائلية أو الوطنية بالبدايات والنهايات, بالمغادرة والعودة والآلفة بالحياة والموت فإن أدب الازدواج يهتم كذلك بذلك الجانب النفسي والاجتماعي المتعلق بالغياب أو الاختفاء غياب الإنسان عن بيته, مكانه الأليف اختفاء أو انتفاء شعوره بالأمن, رغبته في العودة الي الجذور خوفه من الضياع بعيدا عن أمنه الذي يظن أنه في بيته أو وطنه لنه ربما الذي عندما يعود إليه يجده ليس هو البيت الوطن الذي غادره, يجده ليس البيت الوطن الأليف الذي كان محتفظا به في عقله ووجدانه, يجده بيتا غريبا ووطنا غريبا, بل موحشا, وربما مخيفا وهنا يكون الحضور أو العودة وسيلة للغياب أو الهرب هنا قد تكون الازدواجية وتعدد الذات والأقنعة وسيلة لحماية هذه الذات من مواجهة ماتراه من تكسرات وتهشيمات في مرايا ذاتها التي كانت تظنها من قبل جميلة مصقولة, لامعة صادقة. إضافة إلي ماسبق يقال أيضا إن هذه الازدواجية في الشخصيات أو لدي الكتاب أو الإنسان عامة هي من النتائج المتعلقة بظهور المدن الحديثة وتطورها, تلك المدن التي أسهمت في تكريس الرغبة في الكسب السريع, وامتلاك الأشياء المادية بأي ثمن, ولو علي حساب الذات, حساب أن تقول غير ماتعقد, وأن تنافق وتداهن وتكذب وتسرق وتعيش حياة مزدوجة ترتدي قناع البراءة والانضباط نهارا وقناع الجريمة والتحرر ليلا تنتقد القمح والتسلط وأحادية التفكير مرة لكنك لاتمانع في قبول منحة أو عطية من سلطات قامعة لشعوبها أو من اعداء وطنك مرة أخري, كما أنك قد ترتدي هذين القناعين أيضا خلال الوقت نفسه ليلا ونهارا. المزيد من مقالات د.شاكر عبد الحميد