في مقطع من رواية الحكاية الغريبة للدكتور جيكل والمستر هايد, للكاتب الإنجليزي روبرت لويس ستيفنسون(1850-1894) هناك تجسيد لحالة من الوعي الخاص بالازدواج وانقسام الشخصية لدي الطبيب جيكل, حيث يقول معبرا عن حالته هذه: ولما بلغت من العمر سن الرشد, وطفقت أرقب ما حولي, وأتملي مسيرتي ومكانتي في العالم, كنت محكوما سلفا بازدواج عميق في الحياة. وكم من إنسان تدرع من قبل اتقاء لمثل هذه المعاصي التي بت مذنبا باقترافها; لكني من المنظور العام الذي رفعته نصب عيني, تدبرت الأمور وأخفيتها, وإحساس مرهق بالعار يكاد يجللني; ولهذا السبب, فإن الطبيعة الرهيبة لتطلعاتي أكثر من أي انحطاط آخر في مثالبي هي التي جعلت مني ما حدث, ومع هوة أعمق غورا مما قد تصادفه عند سواد البشر الأعظم, أجهزت في سريرتي علي أقاليم الخير والشر تلك التي تقسم وتؤلف طبيعة الإنسان المزدوجة... ثم يضيف أنه: برغم هذا الازدواج العميق بداخلي لم أكن, ولا بأي شكل, مرائيا; فكلا الجانبين كان جادا في دأبه كل الجدية. لقد كانت الحقيقة المرعبة التي اكتشفها جيكل, والتي أودت به إلي خراب مريع, هي أن الإنسان ليس شخصا واحدا حقا, إنما هو- في الحقيقة- شخصان اثنان. فمن الجانب الأخلاقي, وفي شخصي أنا, تعلمت التعرف إلي الازدواج العميق والبدائي في الإنسان, رأيت ذلك في الطبيعتين اللتين تتآلفان في ساحة وعيي, وحتي لو قيل عني بأني أحدهما, فما كان ليتسني لأحد هذا القول لو لم أكن أنا- في الصميم- الشخصين كليهما. فكيف حدث الافتراق بين هاتين الشخصيتين؟ لقد حدث من خلال وصول جيكل مصادفة إلي ذلك المركب الكيميائي الذي يحول الشخصية الخيرة إلي شريرة, والشريرة إلي خيرة, ولا يحدث هذا التحول علي المستوي الأخلاقي والعقلي فقط; بل علي المستوي الجسدي أيضا. و يقول جيكل أيضا معبرا عن رعبه من شعوره بانقسام روحه و ازدواج نفسه: إن هلع الروح ليس ثمة ما هو أشد منه حتي ساعة الميلاد أو ساعة الموت. يكتب الروائي التشيكي الشهير فرانز كافكا إلي خطيبته عام1917: تعرفين أن اثنين يتصارعان في داخلي, وعلي مجري الصراع اطلعت طوال خمس سنوات بالكلمة والصمت, وبمزيج منهما, وينعكس هذا الازدواج الشخصي لكافكا في رسائله ويومياته وكتاباته بشكل عام, ففي رسائله يقدم كافكا نفسه علي أنه ذو طبيعة مزدوجة( أنا- هو). فما أصل هذا الازدواج؟ يتعلق الازدواج- في جوهره- بالهوية, أو بالأحري بالافتقار إلي هوية, بانقسام الهوية, بتفكك الهوية, باندياح الهوية, بضياع الهوية, بغياب الهوية, بشبحية الهوية, بعتمة الهوية, بقلق الهوية أو رعبها, هكذا يصرخ وحش فرانكنشتاين في رواية الكاتبة الانجليزية ماري شيللي المعروفة بهذا الاسم: من كنت أنا؟ ماذا كنت أنا؟ من أين جئت؟ ماذا كان هدفي ومقصدي؟ لكنه يفشل في الوصول إلي إجابات, إنه هنا وحش يطرح الأسئلة الأساسية التي تقع في قلب موضوع الهوية. تعني كلمة الازدواجية وجود حالتين اثنتين من شيء ما, كما أنها تعني أن يدرك شيء واحد علي وجهين, أو يتجلي مرتين, أو يدرك مرتين, أو يدرك مزدوجا, وقد يكون هذا الإدراك حقيقيا, وقد يكون متوهما, وهذا المعني الثاني هو الذي يعنينا هنا, وهو المعني الذي يكون فيه الجانبان أو الوجهان أو الحالتان أو الشخصان المكونان لحالة الازدواج إما في حالة تكامل أحدهما مع الآخر, علي الرغم من اختلافهما, أو في حالة تناقض وتنافر وعداء أحدهما مع الآخر, علي الرغم من تماثلهما, إنهما قد يكونان شريكين, أو عدوين, قد يرحب أحدهما بالآخر, ويسعي من أجل البحث عنه والوصول إليه, وقد يخشاه ويخافه ويهرب منه, هكذا يكون موضوع الازدواج موجودا في قلب موضوعات أخري كثيرة ترتبط بالأدب وبالشخصية الإنسانية بشكل عام, ولعل أهم هذه الموضوعات والتيمات هنا- ما يمكن أن نذكره حول موضوعات مثل الهوية وازدواجها وانقسامها وتعددها وتفككها, وحول القرين والظل والذات الأخري, وحول الأشباح والأشباه والهلاوس والفصام. وهكذا قد يكون الازدواج ظاهرة صحية, وقد يكون ظاهرة مرضية, صحية إذا اقترن بوعي الذات بنفسها, وبحثها عن ذاتها الأخري, ذاتها القدوة, الأكثر اكتمالا, وقد يكون الازدواج دلالة علي الكذب, وعلي الوهم والتوهم والخداع, والمرض النفسي والعقلي أيضا, والإنسان الذي يقال عنه إنه بوجهين أو منافق أو مرائي... إلخ. وفي لغة الحياة اليومية يشير مصطلح الازدواجية إلي ذلك الخيال الذي اهتم بتجسيد وجود حالتين عقليتين أو أكثر لدي الفرد الإنساني الواحد, كما أنه يشير إلي الأوهام والحقائق, المبادئ والممارسات, حالات العقل والوجدان, أساليب الكلام وطرائق الحياة, المظهر الخارجي والجانب الداخلي من الذات البشرية كما جسدها الأدب. والإزدواجية كما درسها العلماء موجودة حتي علي مستوي النباتات والحشرات والحيوانات والبشر الذين يجمعون في تكوينهم بين ذكر وأنثي( حالات الهيرمافروديت مثلا), وموجودة أيضا علي مستوي التكوين البيولوجي والهورموني للإنسان, حيث يوجد لدي الرجل هرمونات جنسية أنثوية إضافة إلي هورموناته الذكرية والعكس صحيح بالنسبة للأنثي. وفي ضوء ما قاله المحلل النفسي السويسري الشهير كارل جوستاف يونج, فإن هناك إزدواجية في الشخصيات الإنسانية موجودة علي المستوي الخاص بالذكورة الأنوثة وموجودة أيضا علي مستوي أنماط الشخصية, وقد تم تجسيد تلك التحولات في الهوية, وظهور عمليات الازدواج والأقران والأشباح وغيرها في القص الحديث, و من ثم تم تجسيد ذلك التفكك في الهوية, ذلك التشظي في الذات. هنا الهويات التي تنقسم وتتداخل وترتدي الأقنعة, هنا يخفي الأفراد أسرارهم الخفية المعتمة التي تتحدث عن ذات أخري, هي في واقع الأمر, الذات الأولي, الأنا, نفسها, لكنها كما تتجسد في أعماقها, ومشاعرها, يتجسد في ظلامها الداخلي, قلقها الذي لا تستطيع الهروب منه إلا من خلال مثل تلك التجسيدات والتشكيلات والتحولات. هكذا مزجت الأشكال الجديدة من الازدواج بين الذكور والإناث والبشر و الحيوانات, فظهرت أشكال متحولة بشعة, شنيعة, وأصبحت الحيوانات صورا محاكية للبشر, وأصبح البشر كالحيوانات, وحدث امتزاج وتحول في شكل الجسد وجوهر الروح, وقد عكست هذه التحولات والتبدلات في الهوية ذلك القلق العام الذي شعرت به تلك الشخصيات في المدينة, كما أن هذا القلق قد انعكس بدوره علي شكل الحياة في الحديثة في المدينة أيضا, خاصة خلال الليل والظلام, فالمدينة أيضا هنا- فقدت تماسكها واستقرارها, أصبحت مزدوجة, متحولة, مخيفة, قلقة ومقلقة. ويرتبط مفهوم الازدواجية في الأدب أيضا بمفهوم التحول والتغير والنسخ والمسخ والاستمرارية والتبدلات في الزمان والمكان والحالة والشخصية والأخلاق وطرائق التفكير وتحولات الليل والنهار والخير والشر والأمل واليأس والأمن والرعب, وإلي غير ذلك من التحولات التي شغلت الأدب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين, ولا تزال تشغله خلال القرن الحادي والعشرين أيضا. كما أن المفاهيم والتيمات التي كانت تجسد حالات الازدواج والتحول هذه كانت تتغير هي نفسها أيضا من فترة إلي أخري, ففي العصر الفيكتوري مثلا في إنجلترا كان هناك شبه إقرار بأن الازدواجية مكون جوهري في الطبيعة البشرية, أما خلال القرن العشرين, ومن خلال أدباء أمثال جوزيف كونراد مثلا, أعيد النظر في طبيعة الإنسان المزدوجة. كذلك كان هناك لدي دستويفسكي, وقبله لدي هوفمان, وإدجار آلان بو تجسيد لتلك الازدواجية القائمة علي أساس التوهم والمرض العقلي, وأن العالم الذي نعيش فيه, كما قال هيجل وهو بصدد حديثه عن هاملت- ليس كما ينبغي أن يكون. والازدواجية, أيضا, عنصر جوهري في القص أو السرد, أيا كان شكله; وذلك لأن الازدواجية غالبا ما تتعلق بالغريب والمختلف, لكنها قد تتعلق ايضا بالقريب المؤتلف, وقد مثلت الازدواجية حضورا قويا في السرد القصصي الخيالي خلال القرن التاسع عشر, بداية من الصعود البارز للحركة الرومانتيكية وصولا الي تلك المذاهب الأدبية والفكرية التي اهتمت بالعجائبي والغرائبي من الوقائع و الشخصيات وتحدثت عن ثنائية الإنسان وازدواجه, وتكونه من روح وجسد, ومن عقل وانفعال ومن أنا وآخر.. إلخ, قد يكون التعدد والازدواج علي مستوي الهوية الفردية ظاهرة مرضية, في حين قد يكون التعدد والازدواج علي المستوي الثقافي ظاهرة إيجابية في حالة الانفتاح علي الآخر بوعي, والاستفادة منه بقدر معين لا يسمح بطمس الهوية الثقافية الخاصة أو محوها, أما لو حدث ذلك, فإن ذلك التعدد أو الازدواج الثقافي ستكون له تأثيراته السلبية, وربما المدمرة, في الهوية الثقافية الخاصة المميزة. هكذا قد تشتمل ظواهر الازدواج علي جوانب إيجابية, أو جوانب سلبية, وقد تشتمل علي الازدواجية النفسية والانقسام, أو علي العقل المنفتح علي الآخر, من ناحية أخري, وقد يكون الجانب السلبي الخاص بالانقسام النفسي مبنيا علي الوعي; ومن ثم فإنه يتضمن نوعا من التطوير الدائم للذات وقدراتها, وسعيها من أجل تحقيق إمكاناتها علي أفضل نحو ممكن, وقد يكون الجانب الإيجابي, الخاص بالانفتاح علي الآخر, مشتملا علي حالة من الاندياح للحدود بين الذات والآخر بحيث تفقد الذات هويتها, وتصبح نسخة متكررة من الآخر, هنا طمس هوية الذات الجماعية أو حتي الفردية وربما محوها أيضا. المزيد من مقالات د.شاكر عبد الحميد