في مشهد متميز من إحدي قصص مجموعة اوردية ليلب للكاتب المبدع الكبير إبراهيم أصلان جسد لنا الليل الموحش, والأماكن المفتوحة المعتمة, عالم من البشر يعملون في استقبال البرقيات وإرسالها, شخصيات منعزلة وحيدة تعاني الوحشة. من بينهم تستوقفنا شخصية الحريري, صاحب الوجه النحيل الشاحب, واللحية النابتة البيضاء, والعينين الحمراوين بلون الدم, وبسبب غربته واغترابه, وحياته المرهقة الجافة في عالم الليل المتكرر, اختلط لديه الزمان فلم يعد يدرك الصباح من المساء, ولا الليل من النهار, فأصبح يطلق الأذان أو يرفعه, يدعو الناس إلي الصلاة في غير مواقيتها, بعد أن ينتصف الليل بزمن, وقد كان صوته- كما يقول إبراهيم أصلان- ايتردد ضعيفا في ضوء عشرات من لمبات النيون المعلقة. وأثناء التكرار, كان يمد هذا الصوت ويمده حتي يحتبس, ويضيع, ثم ينفلت بعيدا ويأتي مسموعا مرة أخري, وقد كان يؤذن بكلام مبهم غير مفهوم, لكنه له نغمة الأذان, لقد أصبح الأذان هنا, دلالة علي الآلية والنمطية والتكرار والغرابة التي سقط الحريري في براثنها بفعل ونمطية حياته, وآلية عمله. لقد اختل لديه الشعور بالزمان والمكان, وفقد إنسانيته, فصار يعمل مثل آلة, تصدر عنها نغمات لا معني لها, وأصبح يتوجه بفعل أشياء يبدو أنها هي التي تحركه وتتحكم فيه, بدلا من أن يقوم هو بتحريكها والتحكم فيها. هكذا أصبح الحريري اوالذي اسمه هنا لا يدل عليه,- فحياته تفتقر إلي وجود أي معني من معاني الحرير فلا نعومة ولا ثراءب- يؤذن في غير مواقيت الأذان, وصار أذانه المألوف مبهما, له نغمة الأذان. هناك بشر من لحم ودم, بشر تجري الدموع من أعينهم وتبلل وجوههم الشاحبة النحيلة, كما حدث للحريري في نهاية القصة, هنا إنسان وقع في براثن ذلك االشيءب غير المألوف الذي لا يمكن تمثيله, والذي تحدث عنه بعض المفكرين ما بعد الحداثيين أمثال ليوتار وزيزيك, هنا غرابة المجهول وغير المفهوم, فهي حالة أشبه بحالة اانهيار التمثيلاتب التي تحدث عنها كانط, وعجز عن الفهم, لحدود الزمان والمكان, وغياب للذات في أفعال النمطية والتكرار, والذات هنا ليست موجودة في داخلها, كما أنها لا تمتلك وعيها الخاص, وتحولت إلي شيء, إلي شخص آخر منفصل عنها, موجود في عالم الإيماءات والحركات الطقسية النمطية المتكررة التي تكشف عن غياب الوعي, وجمود الإبداع, وضياع الإنسان وغربته واغترابه, وغرابة سلوكه في هذا العالم الغريب. في كتب الطب النفسي الحديثة, وصفت هذه الحالة بأنها إحساس دائم ومقلق بالغرابة, قد نعرفه علي أنه اضطراب انفعالي, يكون مشاعر بلاواقعية الأشياء والحياة, مع فقدان الاقتناع بالهوية الخاصة للفرد, وكذلك الإحساس بالعجز عن التحكم في حركات جسد المرء الخاصة. وتنقسم أعراض تغير الواقع هذه إلي نوعين: الإحساس بالتغير في الشخصية, والإحساس بأن العالم الخارجي نفسه قد أصبح غير واقعي; هنا يشعر المرء بأنه لم يعد هو نفسه, لكنه قد لا يشعر أيضا بأنه قد أصبح شخصا آخر; لا تكون حالته من قبيل تلك الحالات التي تسمي تحول الشخصية كحالة الدكتور جيكل والمستر هايد في رواية ستيفينسون الشهيرة مثلا, بل إن ما يحدث هنا هو أن الخبرات تفقد معناها العاطفي أو الانفعالي, وتصطبغ بإحساس مخيف أو مرعب بالغرابة واللاواقعية, وقد تكون بداية ظهور هذه الحالة متسمة بالحدة والفجائية, وتجيء عقب حدوث صدمة انفعالية قاسية, وقد يكون ظهورها متدرجا, ويعقب حدوث ضغوط انفعالية وجسمية طويلة وممتدة. هنا قد يجد الإنسان مشاعره متجمدة, وأفكاره غريبة, وهذه الأفكار تحدث له اكما لو كانت تتم من خلال حركات ميكانيكية, وإنه اكما لو كان هو نفسه آلة أو إنسانا آليا; هنا تبدو الأشياء والبشر له غير حقيقيين, بعيدين عنه, يفتقرون إلي اللون العادي, والحيوية, وقد يشعر من يقع في مثل هذه الحالة أيضا, بأنه في حلم أو غشية من أمره, وأنه مرتبك, وفي حيرة, بسبب تلك الغرابة الخاصة بمشاعره, وبلا واقعية العالم, ثم إنه يجد صعوبة في التركيز, وقد يشكو من أن عقله قد مات, أو أنه توقف عن التفكير. هكذا كنا. فقدنا القدرة علي الشعور بالزمن أو الإحساس به, أو تقديره, علي نحو دقيق, عجزنا عن إدراك العلاقات المناسبة بين الماضي والحاضر والمستقبل معا, أو تكوين ما يسمي بمنظور الزمن الذي تتفاعل فيه أزمنة الماضي والحاضر والمستقبل بشكل إبداعي فريد وجديد. يرتبط منظور الزمن بالمنظور المكاني, وهذان لهما ارتباطهما أيضا بالمنظور الشخصي, فالشخص الذي بلا مكان ولا زمان شخص غريب, فاقد للشعور بالشخصية والواقع. هكذا كنا نشعر أن الزمن ليس زمننا, والمكان ليس مكاننا, والوطن ليس وطننا, ونحن أنفسنا ليس أنفسنا, فأي تدمير وتشوه لحق بنا؟! الغريب من إن رأيته لم تعرفه, و إن لم تره لم تستعرفه. لقد كنا نشعر مثل هاملت, لكنه هنا هاملت جماعي وليس( هاملت) الشخصية المفردة المنعزلة الواحدة المتوحدة; بأن الزمان اضطرب; والواقع ليس كما ينبغي أن يكون, لقد أعادت الحيوية إلي الوعي والجسد المصري, فحررته, وفيما يشبه السحر من أغلب الإضطرابات السابقة, هكذا لم نعد غرباء, لا عن أنفسنا ولا عن وطننا, مكاننا الذي أصبح زمكانة وسيستمر كذلك.