على أعتاب ثمانينات القرن الماضى وقف الريس زكريا إبراهيم فنان السمسمية البورسعيدي، مُطَوِّقاً روحه بهواء القنال، ورابطاً براحه بالمرسى على مينا بورسعيد، حيث يفرش التاريخ بساطاً من نضال مصرى خالص، بساطاً قادراً على أن يعبر بالمصرى كل تحدٍ، وحسبه أنه يوماً ما استطاع صد هجوم ثلاثة جيوش مجتمعة، يوم كان سلاحه الأكثر بدائية هو الحاسم فى الانتصار للوطن، بعدما دعمته روح اليقين وأنغام السمسمية. كان عصر الانفتاح قد تغلغل فى البدن البورسعيدي، غازياً الأزقة قبل الميادين، وصابغاً وجه المدينة الباسلة بمساحيق تجميل النظام العالمى الجديد، تلك المساحيق التى طمست كثيراً من أسباب القوة فى شخصية المدينة المقاوِمة، والمواطن المناضل فى معارك التحرر والتحقق والأرزاق. الريس زكريا على أعتاب الثمانينات التى كانت، يفتش عن «المصرى البورسعيدى» الذى زرع سمسميته فى أرض وعيه، راية تميز وطنى ترفرف كلما نادى الوطن أن حى على «جهاد» يغنى معها ليداوى وجع الكد على القوت، ويضرب معها ألحان الإباء كلما عمت ألحان الانكسار. اكتشف الريس زكريا حين أطلق دعوة لتجميع المهتمين والمحبين للسمسمية أنه وحيداً ينادى على روح توشك أن تفر، كتب ما يسميه قصيدة عمره الوحيدة (وحيدا فى الصحراء ولا أحد .. أصرخ لا أحد ..سأصرخ فربما خلف هذا الجبل البعيد .. قد يسمعنى أحد). قرر الريس زكريا أن يبدأ رحلته صوب الإمساك بأطياف روح تفر من بدن مصر المعاصر. روح فنه الشعبى المعجون بوعى المصري، بتراكمات ثقافاته ومنمنمات ميزاته. ذات الروح التى تصارع سكرات فنون العولمة حيث لا بد من طحن كل سمات الثقافة فى (سندان) راعى البقر الأمريكاني، كان على يقين أن يوما ما سيأتى وسيشعر به أحد؟. قضى الرجل سنوات ثمان حتى اكتملت أركان فرقته (الطنبورة)، التى استحالت رأس الحربة فى المعركة، فرضها على الجمهور عرض شارع مجانى شهرى لا يتوقف من ديسمبر 1988م. كان يمكن استيعاب جهد الريس زكريا باعتباره فعلاً فنياً شعبياً، لولا لقاء جمع كاتب السطور، والمفكر العبقرى الراحل د.عبد الوهاب المسيري، تحديداً فى عام 2001م، جالسته فى القطار طيلة رحلة من الإسكندرية إلى القاهرة، كان قد هبط من كوكب التنظير إلى عشوائية الواقع، قال المسيرى (أتابع ظاهرة الفيديو كليب باهتمام بالغ، ويفزعنى غياب المبدع المصرى عن معركة الهوية فى مواجهة كليبات تفرض علينا ثقافة العولمة، الهوية المصرية مهددة بالانقراض، فأمريكا بثقافتها تغزو الشخصية المصرية، وهذه كارثة إن لم ينتبه المبدعون). وكأنى بالمسيرى رحمه الله ينظر بتقدير بالغ إلى الريس زكريا، وهو يُعلن عن آلية مواجهة التهديد الأمريكانى للشخصية المصرية قائلاً (الوسيلة الوحيدة التى تحول دون ذلك هى إحياء العصبية للتراث الفني، عن طريق التنقيب فى كل فنون البيئة المصرية، وإعادة تقديمها وتطويرها محتوى وأدوات، وتوريث خبراتها لأجيال جديدة تستطيع أن تحافظ على موروث شعبى يكون فى مجمله المزيج المصرى المتفرد). لم يلتق الريس زكريا بالمسيري، لكنه بوعى فطرى أصيل، استوعب طبيعة المعركة، تخلى عن الوظيفة الحكومية (مفتش تموين)، ليتحول إلى (باحث) كل همه هو أن يجوب مصر طولاً وعرضاً بحثاً عن فنونها الشعبية وفنانيها الذين انزووا، أسس فرقة (الطنبورة ) البورسعيدية التى أنجبت ثلاثة أجيال، ثم أسس فرقة (الجركن) للفنون الشعبية السيناوية، كما صنع من مزيج مصرى سودانى فرقة (الرانجو)، وفى الإسماعيلية أنشأ فرقة (الوزيري)، و (الحنة) فى السويس، و(البرامكة) فى المنزلة، و(نوبانور) فى النوبة، و(مزامير النيل) بسوهاج، و(دراويش أبو الغيط) فى مطرية الدقهلية، وعلى موسيقى الزار كان تأسيس فرقة (أسياد الزار) فى القاهرة. أنشأ الريس زكريا «المسطبة» مركزاً متخصصاً فى التراث الشعبي، سعى لتقديم النموذج لوزارة الثقافة التى يرى ذكما يرى كثيرون- أنها دجنت الفن الشعبى داخل أطر وظيفية، فتحولت حالة الفلكلور إلى فعل وظيفى محكوم بقواعد وحسابات وإداريات يقف الفنان فى آخر صف ترتيب أولوياتها. حتى بات الواقع الثقافى المصرى يؤكد أننا نملك بكل فخر وزارة للثقافة ولكننا لا نملك ثقافة!. الريس زكريا الذى بدأ رحلته بعدد من فنانى بورسعيد كان منهم شاركوه السعى للتشبث بروح الفن الشعبى التى كادت تغادر، حتى صارت له فرقاً مصرية تحمل تصنيفات عالمية وتشارك فى كبريات الفعاليات الخاصة بالفنون الشعبية الأصيلة حول العالم. وبينما مصر تنفق على مهرجان القاهرة السينمائى (9ملايين جنيه)، كان الريس زكريا يواصل مساعيه لتحقيق الأمل فى فن شعبى يساهم فى تنشيط ذاكرة هوية آخذة فى التآكل، قرر أن يقيم فعاليات مهرجان «ونس» لفنون الشعوب، قرر أن يواجه كل تجاهل رسمي، وكل عراقيل إدارية تفرض على فعله «ضريبة ملاهي»! قرر أن يواصل متحدياً كل أصوات القبح والتطرف والفرقة بأنغام سمسميته. السمسمية التى كادت تندثر صار لها مهرجان تقصده فرق من (فلسطين - عمان - الهند - إريتريا - فرنسا)، والمثير للدهشة أن هذا المهرجان الذى انقضت لياليه السبت الماضى يعقد دورته الثانية هذا العام. وتبدأ فعالياته فرقة (الجركن) السيناوية، فى رسالة فنية حقيقية، ترفض كل محاولات الإرهاب لأسر صوت سيناء الحر أوفصله عن أصله مصر. إن هذه السطور لا تسعى للحصول على اعتراف رسمى بجهد تبلور فى «وَنَسْ»، لكنها تأكيد على أن لمصر شخصيتها التى ربما تغمر ملامحها المؤامرات والظروف، لكنها تظل محفورة فى ضمير كل مخلص لهذا الوطن، وتتحول فى أيام الظُلْمَة إلى «وَنَسْ» لكل من بمصر اِئْتَنَسْ. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى