سجلت وزارة الثقافة الرقم القياسي بين سائر الوزارات في نسبة التغيير الوزاري منذ الثورة, فها هي بعد التعديل الوزاري المحدود الذي أعلن أخيرا, تودع وزيرها الرابع لتستقبل وزيرها الخامس في بضعة عشر شهرا! وأول ما نود أن نشير إليه في ضوء مرات التغيير القياسية في فترة زمنية محدودة, هو أن حاجة وزارة الثقافة إلي تغيير سياستها الآن, هي بالتأكيد أشد من حاجتها إلي تغيير وزيرها; وما أقصده بإثبات هذه الحقيقة لا يتعلق مطلقا بشخص الوزير, سواء من ودعناه بالأمس أو من نستقبله اليوم; فكلاهما مشهود له بالنزاهة والأمانة والدور البارز في إثراء الحياة الثقافية. ولا شك في أن عموم المثقفين يذكرون للدكتور شاكر عبد الحميد الوزير الذي ودعناه, أعماله الغزيرة المهمة حول الفن والظاهرة الجمالية ترجمة وتأليفا, وآخرها عمله الفريد: (الفن والغرابة) الفائز عن جدارة واستحقاق بجائزة عربية كبري, هي جائزة الشيخ زايد; كما يذكرون بالقدر ذاته أعمال الدكتور محمد صابر عرب حول قضايا التاريخ العربي الحديث, والحركة الوطنية المصرية, أو حول بعض المسائل الشائكة المسكوت عنها في تراثنا الديني والسياسي, وآخرها السفر النفيس الذي أصدره نهاية العام الماضي بعنوان: (الدين والدولة في الفكر الإباضي); وهو العمل الذي لم يلق بعد ما يستحقه من اهتمام, في ضوء ما نعانيه اليوم من محاولات محمومة لتسييس الدين من قبل جماعات الإسلام السياسي, حيث لا تزال تسعي إلي خداع البسطاء لكسب أصواتهم, بالإصرار علي إحياء شعارها القديم المتهافت: (الإسلام هو الحل)! لا خلاف إذن علي مكانة الرجلين وجدارتهما, وإنما الخلاف كله علي السياسة التي ينبغي اتباعها لتطهير وزارة الثقافة مما لحق بها في أثناء الحقبة المباركية, ولا سيما في العقدين الأخيرين, حتي تدهورت الثقافة المصرية علي مختلف الأصعدة, وآل بها الأمر إلي تلك الصورة البائسة المشبوهة في عيون المثقفين الجادين والمراقبين المحايدين. ولا يتسع المقام هنا للإشارة التفصيلية إلي مظاهر انهيار المسرح والسينما وانحطاط النقد الأدبي والفني وتدهور صناعة النشر وغياب الأسس الموضوعية النزيهة في اختيار القيادات والوظائف الكبري في مؤسسات الوزارة, إذ تم بالعمد استبدال أهل الولاء بأرباب الكفاءة; وسوف يعمل أهل الولاء عادة بالمبدأ نفسه, فييبادرون إلي إسناد الوظائف الحيوية الكبري في مؤسساتهم إلي نفر من الأشياع والمنافقين, لنجد أنفسنا في النهاية أمام صغار يختارهم صغار فيختارون بدورهم من هو أصغر! والخاسر هو الثقافة المصرية, التي ما فتئت تهوي من درك إلي درك أسفل, علي نحو ما رصد المحللون والكتاب الموضوعيون غير مرة, من صور الفساد الثقافي المنظم خلال ربع قرن! ليس من شك إذن في مكانة الوزير الذي ودعناه ولا في نزاهته وطهارة يده; وإنما الخلاف كان دائما علي سياسته, فمنذ توليه الوزارة في نوفمبر الماضي, وهو ينظر إلي أن الأمد الذي سيبقي فيه وزيرا لن يتجاوز بضعة أشهر, ريثما يتم تشكيل حكومة جديدة, بنهاية الفترة الانتقالية بعد انتخاب الرئيس وتسليم السلطة; ولهذا فقد رأي رأس الحكمة في أن تظل الأمور كما هي عليه بلا زيادة ولا نقصان! أما الأوضاع التي ورثها في الوزارة, فليتكفل بها من سيأتي بعده, وكفي الله المؤمنين شر القتال! وهكذا رضي صديقنا من الغنيمة بالإياب, ومع الإياب لقب: وزير سابق, يضيف اسمه الكريم إلي قائمة طويلة من حاملي اللقب; والحجة أنه سيترك منصبه الشهر القادم أو الذي يليه, بينما كانت هذه الحجة في الحقيقة سببا كافيا ومبررا وجيها ينبغي أن يدفعه إلي المبادرة بإصلاح بعض ما أفسده الدهر و(الدهريون) من أحوال الثقافة المصرية; ليترك لمن بعده شاهدا علي مروره! لا أن يترك الوزارة علي عللها وأوصابها, تقريبا كما تسلمها! ولا أود أن أطيل في سرد تفاصيل الحوارات الحادة الطويلة التي جرت بيننا حول هذا الخلاف الجوهري, فموقف الوداع يملي أن نتمني لصديقنا المثقف الكبير شاكر عبد الحميد أن يفرغ لاستكمال مسيرته المظفرة في الترجمة والتأليف, بعد أن تحرر كما يقول من أغلال المنصب. أما الوزير الجديد الصديق الدكتور محمد صابر عرب, فقصاري ما نرجوه منه أن يسعي إلي إنجاز ما لم ينجزه سلفه; ونحن لا نطلب منه أمرا إدا! لا سيما أنه يمتاز بخبرة إدارية عريضة لم تكن لسلفه; فقد ظل ما يربو علي سنوات ست رئيسا لدار الكتب والوثائق المصرية, وقد سار فيها سيرة حسنة شهد له بها أهل الدراية, فوقف بالمرصاد للفساد والمفسدين, وحمي مخطوطات الدار ومقتنياتها من حوادث السطو والسرقات المتواترة تحت أسماع أولي الأمر وأبصارهم, ومد جسورا ثقافية تصل الدار بالمبدعين علي اختلافهم, وتبقيها علي وعي بنبض الحياة الثقافية, وبأهم القضايا التي تجد علي ساحتها. سيجد الوزير الجديد ما لم يسرنا ولن يسره بالتأكيد, سيجد موظفين كبارا مفروضين علي الوزارة ويفرضون بدورهم مبالغ ضخمة يتقاضونها من قطاعات الوزارة المختلفة دون وجه حق! وبوسعه أن يسأل سلفه الدكتور شاكر عن هؤلاء وألئك, فهو يعرفهم تمام العرفان! وسيجد مجلات ونشرات أنشأها منذ سنوات أساطين عهد الفساد البائد, ليرأس تحريرها بعض حوارييهم من الكتبة والصحفيين, بمرتب يبلغ أضعاف ما يتقاضاه رؤساء تحرير المجلات العريقة المحترمة في الوزارة ذاتها, علي الرغم من أن نسبة توزيعها متدنية إلي درجة مزرية! وبوسعه أن يتحقق من هذا بنفسه. بل الأهم من هذا كله, أنه سيجد بين يديه لوائح وقوانين مشبوهة تحكم دولاب العمل في الوزارة منذ سنين عدة, لتتيح لمن وضعوها حرية المنح والمنع في الجوائز والوظائف وسواها من المغانم, كما تملي عليهم أهواؤهم ومآربهم; وهو ما يحاول الآن الدكتور سعيد توفيق أمين المجلس الأعلي للثقافة أن يعالجه بمثابرة وإصرار. وأنا علي علم بما يلاقيه في سبيل هذا من عنت وما يواجهه من عراقيل يتفنن في تدبيرها فلول الوزارة وأتباعهم. سيجد الوزير الجديد هذا كله وأكثر, ونحن نأمل أن يجند نفسه ونحن معه ليواجهه, حتي لا يترك الوزارة بدوره كما تسلمها! المزيد من مقالات حسن طلب