إن عبادة الله وحده، ورفض عبادة غيره من خلقه؛ ذات قيمة كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب الزائفة والطواغيت المصطنعة؛ لأن عبادة الله تنتج عنها عمارة الأرض، وترقيتها، وترقية الحياة فيها، وإقامة العدل وإعطاء كل ذي حق حقه. فعندما يقوم عبد من عباد الله، ليصنع من نفسه طاغوتاً يعبّد الناس لشخصه دون الله، يحتاج هذا الطاغوت كي يُطاع ويتبع إلى أن يسخر كل القوى والطاقات؛ أولا: لحماية شخصه. وثانياً: لتأليه ذاته. ويحتاج إلى حاشية وذيول وأجهزة وأبواق تسبح بحمده، وتعلي ذكره، وتنفخ في صورته العبدية الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان الألوهية العظيمة! وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة! وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها، وحشد الجموع بشتى الوسائل للتسبيح باسمها، وإقامة برامج التوك شو في الفضائيات المرتزقة تسبح بحمد الطاغية وأعوانه وصناعة البلطجية الذين يصنعون ما يريد من أحداث وكذلك إسكافية القوانين الذين يفصلون القوانين للطاغوت كيفما يريد، وهذا جهد ناصب لا يفرغ أبداً؛ لأن الصورة المصنوعة لهذا الطاغية سرعان ما تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن مِن حولها النفخ والطبل والزمر وهدأ حملة المباخر وكذابو الزفة، وما تني تحتاج كرة أخرى إلى ذلك الجهد الناصب من جديد، وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال وأرواح أحياناً وأعراض! لو أنفق بعضها في عمارة الأرض، والإنتاج المثمر، لترقية الحياة البشرية وإغنائها، لعاد على البشرية بالخير الوفير، ولكن هذه الطاقات والأموال والأرواح أحياناً والأعراض لا تنفق في هذا السبيل الخير المثمر ما دام الناس لا يدينون لله وحده، وإنما يدينون للطواغيت من دونه، قال ربنا سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]. ومن هذه اللحظة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء بُعدها وانحرافها عن دين الله؛ والاحتكام لشرع غير شرعه، وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض، والقيم والأخلاق والأوقات الضائعة والإشارات المروية التي تغلق؛ لأن الطاغوت ذاهب إلى هنا أو هناك، ناهيك عن الذل القهر والدنس والعار، وليس هذا في نظام أرضي دون نظام، وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات. شقاء العبودية لغير الله إن الذين فسقوا عن دين الله، فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته، قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره، العبودية التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم، مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم، والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة، ثم إذا بها أضاعت المبادئ وهتكت الأعراض وعرت النساء ونشرت الفجور والفساد وسيطرت على الأموال ونهبت ثروات البلاد والعباد. أوروبا من أسر الكنيسة إلى هيمنة الرأسمالية لقد هربت أوروبا من الله في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف، وثارت على خالقها جهلا في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة! ثم ظن الناس أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم ومصالحهم، كذلك في ظل الأنظمة الفردية (أو الديمقراطية كما يسمونها)، وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية، والأوضاع النيابية البرلمانية، والحريات الصحفية، والضمانات القضائية والتشريعية، وحكم الأغلبية المنتجة، إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة، ثم ماذا كانت العاقبة؟ كانت العاقبة هي طغيان الرأسمالية ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات، وكل تلك التشكيلات، إلى مجرد لافتات، أو إلى مجرد خيالات! ووقعت الأكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال، فتملك معه الأغلبية البرلمانية! والدساتير الوضعية! والحريات الصحفية! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم، لكن هؤلاء الطواغيت لا يتورعون عن سجن الصحفيين وتكميم أفواههم وحتى قتلهم وخطفهم وإخفائهم... إلخ، إذا ما أحسوا قلقا تجاههم على كراسيهم. وهكذا حار الناس بين الدينونة للرأسماليين والحكام والمستبدين، وفي كل حالة، وفي كل وضع، وفي كل نظام، دان البشر فيه للبشر، دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة، دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حال، وها نحن في مصر لا يخفى علينا ما دفعه الشعب المصري من دمه وماله وعرضه للنظام البائد الذي أتى على كل شيء من خيرات مصرنا الغالية وقسمها بين أتباعه ورجاله وذويه، وها هو الشعب المصري يتضور جوعا وازداد فيه عدد البطلجية الذين أنتجهم نظام المخلوع في تربة التجويع التي صنعها. إنه لا بد من عبودية! فإن لم تكن لله وحده تكن لغير الله، ولكن شتان بين الاثنتين، العبودية لله وحده تطلق الناس أحرارًا كرامًا شرفاء، والعبودية لغير الله تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم، ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية. من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات الله سبحانه وفي كتبه، وسورة يوسف عليه السلام في القرآن نموذج من تلك العناية، فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة، ولكنها تتعلق بالإنسان كله، في كل زمان وفي كل مكان؛ وتتعلق بالجاهليات كلها، التي تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد. والخلاصة أنه يتجلى بوضوح أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية التي يعبر عنها في هذه السورة بالعبادة هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام؛ وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام! إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم، القضية إيمان يوجد أو لا يوجد، وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق، ثم هي بعد ذلك لا قبله قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام؛ وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام، وتنفذ فيها الأحكام يقول الله تعالى على لسان نبيه يوسف عليه السلام: {...إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ*وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ*يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ*مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف:37-40]. وكذلك فإن قضية العبادة ليست قضية شعائر؛ وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة، وأنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه العناية في المنهج الرباني المتمثل في دين الإسلام، واستحقت كل إرسال الرسل والرسالات، واستحقت كل هذه العذابات والآلام والتضحيات التي تحملها الأنبياء وخاتمهم نبينا عليهم الصلاة والسلام جميعا ثم تحملها الصحابة رضي الله عنهم من بعده ضحوا بالغالي والرخيص من أجل توصيل هذا الدين للبشرية جميعًا، وأوذوا وعذبوا وأخرجوا من ديارهم من أجل الدعوة إلى الله تعالى. (بتصرف من تفسير الظلال). المزيد من مقالات جمال عبد الناصر