بمجرد خروجك من مطار مدريد, يطالعك تمثال من البرونز لسيدة بدينة, عارية الساقين, لا يحمل وجهها أي ملامح حسن وإنما قدرا خرافيا من المرح والابتهاج, تمتطي ثورا غاضبا يتطلع بعينيه إلي الفراغ في حنق بالغ!. إنه ليس مجرد تمثال ارتأت بلدية العاصمة الاسبانية أن يكون أول ما تصافحه عين الزائر, بقدر ما هو رسالة تبعث بها المدينة إلي من يجيد الإنصات إلي لغة الأسرار الهامسة حيث سيعرف لاحقا أن التمثال يجسد واحدة من أهم سمات المكان هنا: الروح النزقة والميل الجارف نحو الحداثة مع حنين إلي الماضي في طبعته الرومانية. هذه الروح ستطاردك في كل مكان تحل فيه وتلوح لك عبر مشاهدات عابرة في الشوارع والأسواق والمقاهي فالأجيال الجديدة مسرعة الخطي لا تلوي علي شيء وثنائيات العشاق من أصحاب الجنس الواحد تنافس الصورة التقليدية لعشاق أوروبا الذين يغرمون بالتعبير عن مشاعرهم المشبوبة في الفضاء المفتوح, في مقابل عجائز طعنوا في السن وتقدم بهم العمر ولا زالوا حتي اللحظة الأخيرة متمسكين بحقهم في الاستمتاع بشمس لطيفة وهم يسيرون ببطء الحكماء في شوارع تبدو للوهلة الأولي متاحف مفتوحة. ولأنها تقع علي ضفاف نهر مانثاناريس في وسط إسبانيا وتخترقها الغابات والحدائق العامة, تعد مدريد واحة هادئة تجسد الثالوث العربي الأشهر: الماء والخضرة والوجه الحسن, رغم أنها ثالث أكبر المدن الأوروبية بعد لندن وبرلين وتحتوي علي6 جامعات حكومية والعديد من المعاهد العليا. وتبدو المدينة مولعة بشكل خاص بالتماثيل ومداخل الحدائق والميادين والطرق المصممة علي هيئة واجهات المعابد الرومانية. حططت رحالي في يوم شديد الحرارة علي نحو غيرمعتاد في مدينة يورو متوسطية تتبع مناخ البحر المتوسط, متمتعة بدرجة حرارة معتدلة مع ميل واضح نحو البرد والصباحات الغائمة التي تتبلل فيها الغابات والأشجار بقطرات مطر يكثر هطوله في الخريف والربيع, بينما الصيف والشتاء فصلا الجفاف بامتياز. ولا تندهش إذا قلت لك أنها تبدو أحيانا أخري مثل منزل أنيق تم تشييده فوق ربوة عالية, فمتوسط ارتفاعها عن سطح البحر يبلغ667 متر. حين كنا صغارا, كان يتملكنا كثير من الزهو ونحن ندرس في حصص التاريخ المدرسي كيف أن أجدادنا من العرب تمكنوا من شن حملة عسكرية عام711 م علي مملكة القوط التي حكمت شبه الجزيرة الايبرية- عرفها المسلمون باسم الأندلس- بجيش من البربر بقيادة طارق بن زياد الذي هزم الملك رودريك في معركة وادي لكه ثم لم تمض15 عاما حتي كانت مناطق واسعة من اسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا تمثل إمبراطورية عربية دامت نحو800 عام. وكان يتملكنا الفخر بأن مدنا اسبانية كاملة تحمل حتي الآن البصمة العربية مثل غرناطة وقرطبة, فضلا عن طليطلة التي تم تحريف اسمها إلي توليدو وسرقسطة التي تم تحريف اسمها الآن إلي ثارغوثا, غير أن ما لم نعرفه ويبدو انك بحاجة إلي زيارة ميدانية لتكتشفه هو أن العبق العربي لا يقتصر في اسبانيا علي قصر الحمراء ومسجد قرطبة وغيرها من آثار إسلامية تقع في الجنوب والشمال الشرقي من البلاد, ففي قلب العاصمة هاهو تاريخ أجدادك ماثل أمام عينيك وتحديدا في واحد من أكبر ميادينها: الكالا القلعة واسمه الرسمي بويرتا دي الكالا بوابة القلعة يفاجئك الميدان وأنت تستقل التاكسي والسائق الاسباني ينطق بالاسم دون أن يعرف خلفيته, وهو عبارة عن قلعة قديمة علي الطراز الأموي لم يبق منها سوي واجهة منحوتة بإبداع فوق أعمدة ضخمة, ومحاطة بالأشجار والعشب من كل جانب مما أكسبها سحرا خاصا.