تقوم الأوطان على اجتماع الكلمة، ووحدة الهدف، والتئام جهود القوى، والأفراد جميعا على تحقيق ما فيه مصلحة الوطن، وسعادة أبنائه. وتنهار الأمم عندما يختلف أبناؤها، وتتفرق كلمتها، وتتبعثر جهودها بين الجدل، والتمزق. دعانا القرآن الكريم والسنة النبوية إلى أن يصبر أحدنا على الآخر، وأن يحسن أحدنا معاملة الآخر، وأن تكون لدينا طاقات واسعة لاحتضان الآخرين، واستيعابهم، بقدر الإمكان. وتذكر أنه توسط القرآن الكريم قول أهل الكهف :"وليتلطف". فالتسامح والاستيعاب، وحسن التعايش مع الآخر، ولطف التعامل معه، تغليبا للمصلحة العليا؛ ضرورة إسلامية لنهضة الأمة، وابتغاء مرضاة الله تعالى. ويعطي الأنبياء والرسل قدوة عملية في أهمية التسامح والاستيعاب. وتكرر تشبيه العلاقة بين النبي وقومه من المشركين بأنه أخوهم، وأنهم إخوته.. فالقرآن الكريم يقول :"وإلى مدين أخاهم شعيبا"، ويقول :"وإلى ثمود أخاهم صالحا". إنها اخوة إنسانية عامة يحرص عليها الإسلام، بما تنطوي عليه من تسامح وعطف ورحمة وشفقة، برغم ما كان النبي أو الرسول الكريم يلقاه على أيدي قومه من الأذى، والاستهزاء، والتكذيب، والكيد .. إلخ. فالقاعدة القرآنية في التعامل مع الآخرين تقوم على الآية الكريمة، وخطاب الله تعالى لمحمد عليه السلام :"خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ".(الأعراف :199)..فهذه الآية تمثل جماع الأخلاق، وزمام الآداب، وقال عنها بعض أهل العلم إنها أجمع آية في الأخلاق. وقوله تعالى :"خذ العفو"، أي ما سمحَت به أخلاق الناس، وتَيسر لهم القيام به. وقوله :"وأمر بالعُرف"، أي: بالمعروف من كل قول طيب، وفعل كريم.. وقوله: "وأعرض عن الجاهلين"، أي: لا تقف عند جهل الجاهلين، وروّض نفسك على تجاهل رعونتهم، وسوء تصرفهم، وإلا صار المرء جاهلا مثلهم، فيجهل عليهم بمثل جهلهم عليه، كما قال الشاعر: ألا لا يجهل أحد علينا.. فنجهل فوق جهل الجاهلين! ولهذا كان من هدي النبي -عليه السلام- أن يقول إذا خرج من بيته في كل وقت، كما جاء عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، رضي الله عنها، قَالَتْ :"مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلاَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ :"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْأُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَىَّ ".(صححه الألباني - صحيح أبي داود). وفي قصة موسى مع أخيه هارون -عليهما السلام- دلالة كافية على مدى الحرص على وحدة القوم، حتى لو كانوا مشركين،إذ قال لأخيه هارون :"اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ?الأعراف:142?، لكنه عاد فوجد القوم يعبدون العجل، فأخذ برأس أخيه يجره إليه. "قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي".(طه:94). أما قصة النبي سليمان عليه السلام مع الهدهد فهي تدل على قمة الاستيعاب من هذا النبي العظيم الذي سخر الله له الجن والإنس والطير..استيعابه لذلك الكائن الضعيف الذي يمثل أحد رعيته، إذ برغم ضعفه قال لسليمان :" أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ".(النمل:22)، فقبلها سليمان، ولم يستخف بما جاء به الهدهد، وإنما قال له :"سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ".(النمل:27)، فكان أن جعل الله تعالى هذا الكائن الضعيف سببا في هداية قوم "سبأ" إلى الإسلام.
إن تاريخ الإسلام ملئ بعشرات الوقائع التي تدل على ضرورة التخلق بخلق التسامح، والعفو، وسعة الصدر، وعدم رد الجهل بالجهل، وعدم إقصاء الآخر، وضمان حقوقه جميعا، في الرأي والتعبير والتصرف، بما يمليه عليه ضميره أو ثقافته.وسوف نستعرض بعضا منها في مقالات مقبلة إن شاء الله.