جيلنا هو الأسعد حين منحه القدر فرصة عظيمة لم تتكرر لأجيال، وهي أن نتتلمذ علي أيدي أعظم الأساتذة في الاقتصاد والعلوم السياسية والإحصاء، والذين تساقطوا واحدا بعد الآخر، لكنهم تركوا لنا العلم والقيم والمبادئ، وكان آخرهم استاذنا العظيم الدكتور بطرس غالي. التقيت وزملائي بالسنة الأولي بكلية الاقتصاد، وكنا أول دفعة بها مع الأستاذ الدكتور بطرس غالي، والذي درس لنا مقدمة علم السياسة فكان كمحاضر قمة في الأستاذية، كما كان قمة في الشياكة، ولم يكن استاذا عاديا بل استاذا عالميا، ورغم كل القيود التي كانت موضوعة علي السفر للخارج آنذاك إلا ان الدكتور بطرس كانت له مكانة خاصة في المحافل الدولية وبالتالي كانت سفرياته عديدة ومتعددة ورغم ذلك لم يخل يوما بالتزاماته نحونا في التدريس. بطرس غالي هو من اختاره الأستاذ هيكل لتولي أمر أهم إصدار لمؤسسة الأهرام وهو «الأهرام الاقتصادي» لتطويره، ثم قام بتأسيس المجلة السياسية الدولية علي غرار الدوريات العالمية ليحتلا معا مكانة محلية وإقليمية ودولية ولا تكاد تخلو منهما مكتبة محترمة في العالم عامة، خاصة بالخبراء والمتخصصين والأساتذة، ويكفي انهما تحملان اسم بطرس غالي. وحين تقدمت للعمل محررا بالأهرام الاقتصادي وفقا للإعلان المنشور آنذاك لطلب محررين، كان الدكتور بطرس واحدا من لجنة الامتحان، وسألني من بين أسئلته عما إذا كانت صحتي تتحمل العمل الصحفي الشاق والسهر بالمطبعة، والتحقت بالمجلة محررا وتعلمت منه الكثير والكثير ومن اهمه تنظيم الفكر، فقد كان يحمل عقلية منظمة للغاية ومثل عقله مجموعة من المربعات إلي جوار بعضها كل منها يحمل ملفا معينا شاملا لموضوع يسهل عليه استدعاؤه واستخراجه علي الفور، وكان لماحا في قراءة الشخصيات إذ قبل ان يدخل عليه أي شخص في مكتبه كان يعرف ماذا سيقول قبل أن يتحدث، وبالتالي يكون ذهنه حاضرا بالرد والتعليق علي الفور، ومن أهم ما تعلمته منه القدرة علي المتابعة الدقيقة للعمل إذ أدت مقتضيات شخصه كواحد من ابرز وأهم علماء القانون الدولي والسياسة في العالم إلي ان تتخاطفه المحافل الدولية بين حين وآخر لإلقاء محاضرات أو لقيادة مؤتمرات،وفي عملي معه كان شديد الاهتمام بسلامة ودقة اللغة العربية، وقد استقدم لهذا الغرض استاذا معتبرا يتولي المراجعة اللغوية لكل كلمة قبل نشرها بالمجلة، والأكثر من ذلك كان الدكتور بطرس يحفظ بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وأذكر أن أحد عناوين مقالاته بالأهرام الاقتصادي كان الحديث النبوي الشريف:«اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم». وكان شديد الارتباط بتلاميذه معاونا لهم بالعلم والفكر والكتب والمراجع ولم يبخل علي أحد في إسداء النصح كما أوفي الجميع الاستزادة من علمه الوفير. وعلي الرغم من مكانته المتميزة إلا أنه لم يحاول إطلاقا الحصول علي ميزة خاصة فمثلا عندما توفيت والدته سعي بإصرار والتزام وعلي الفور بمخاطبة مصلحة الضرائب لسداد الضريبة المستحقة عليه قبل ان تطلب منه كما لم يستخدم سفرياته المتعددة إلي الخارج لا في معاملة متميزة بالمطار ولا في جلب سلع أو كميات من سلع لم تكن موجودة بالبلاد حتي ولو كانت في حدود المسموح، فقد كان شديد الالتزام ومرت الأيام والسنوات وتبوأت منصب رئيس تحرير الأهرام الاقتصادي وكان قلبي يمتلئ خوفا إذ أجلس علي الكرسي الذي كان يشغله في وقت ما الدكتور بطرس غالي وكانت صورته دائما في ذهني وتوجيهاته ماثلة أمامي كخريطة عمل وقواعد أسير عليها وفي كل عدد يصدر أسأل نفسي: هل هذا العدد خرج بالصورة التي كان يريدها وعلمنا إياها؟ وبالفعل حتي وهو في قمة المشغولية والمسئولية، وهو يشغل منصب الأمين العام للأمم المتحدة كان مواظبا علي قراءة الأهرام الاقتصادي ويتصل بي ويوجه لي ملاحظاته أو يرسلها أحيانا عن طريق الزميل الدكتور أحمد يوسف القرعي مدير تحرير السياسة الدولية والتي كانت بالنسبة لي عونا كبيرا في تحمل المسئولية وأداء العمل فقد كان هو الأستاذ والمثل الأعلي لي وغيري من تلاميذه في أنحاء العالم جزاه الله خير الجزاء بما قدم لوطنه وتلاميذه والسياسة العالمية. لمزيد من مقالات عصام رفعت