تجيء الكتابة عن رحيل الدكتور بطرس بطرس غالى عن عالمنا لتضع المرء فى مأزق، فأى جانب من جوانب حياته الثرية وإسهاماته المتنوعة يتم تناوله؟ فهوجدير بالتكريم لأدواره وطنياً وإفريقياً وعالمياً، كما أنه يستحق التقديرمن قبل من يتفق معه ويوافقه فى الرؤى أو من يختلف معه ويعارض توجهاته ومواقفه، لأنه شخصياً كان يمارس النقد الذاتي، ويحض تلاميذه على ممارسته. وقبل أن أتشرف بمعرفة الدكتور بطرس بطرس غالى شخصياً منذ أكثر من ثلاثة عقود، كنت أقرأ له مقالاته، عندما كان أستاذاً للعلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، سواء فى جريدة الأهرام أو فى مجلة السياسة الدولية الفصلية التى أسسها وترأس تحريرها لسنوات طويلة، أو فى مجلة الأهرام الاقتصادي، والتى قد لا يعرف كثيرون أنه هو الذى أسسها أيضاً، أو فى بعض الصحف والدوريات الفرنسية، بالإضافة إلى كتبه العديدة، والتى تمثل علامات بارزة فى دراسة العلاقات الدولية كعلم وفهمها كواقع فى آن واحد. كما أن من إسهامات الدكتور بطرس بطرس غالى فى تلك المرحلة كان العمل البحثى الكبير الذى أشرف عليه ولعب الدور الرئيسى فى صياغة استنتاجاته حول الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية التى تمثل يسار الوسط فى معظم دول غرب ووسط أوروبا، وكذلك عن مما عرف فى سبعينيات القرن العشرين بظاهرة «الأورو شيوعية»، فى إشارة إلى الأحزاب الشيوعية فى دول أوروبا التى كانت خارج المنظومة السوفيتية آنذاك، والتى قررت احترام النظام الديمقراطى التعددى والالتزام بقواعده. وبقبوله منصب وزير الدولة للشئون الخارجية فى نوفمبر 1977، وهو منصب بقى فيه لنحو عقد ونصف، ارتبط الدكتور بطرس بطرس غالى بتحول فى سياسات مصر الخارجية، وهو تحول اتفق معه البعض واختلف معه البعض الآخر، كما أن البعض رأى فيه تغييراً فى مواقف للدكتور بطرس بطرس غالى عن مواقف سابقة له، بينما اعتبره البعض الآخر ممارسة للحق فى إعادة النظر فى بعض المواقف فى ضوء معطيات الواقع. ولكننا ندفع هنا بأن هذه الحقبة من تاريخ الدبلوماسية المصرية لا يمكن اختزالها فقط فى التعامل مع القضية الفلسطينية والصراع العربى الإسرائيلي، على أهميتهما، لأنها شهدت طفرات فى عدة مجالات حيوية لعمل تلك الدبلوماسية، يرجع الفضل فى العديد منها للدكتور بطرس بطرس غالي، ومنها إحياء الدور المصرى فى إفريقيا، ربما على أساس اعتبارات جديدة، وهو دور تأثر سلباً منذ مطلع السبعينيات من القرن العشرين لخروج الوزير محمد فائق من المشهد السياسى المصرى آنذاك، وهو من يمكن وصفه بمهندس العلاقات المصرية الإفريقية طوال الحقبة الناصرية. وفى إطار إحياء دور مصر الإفريقى، يذكر للدكتور بطرس بطرس غالى مبادرة إنشاء تجمع «الأندوجو» ( وهى تعنى باللغة السواحيلية «الأخوة») لدول حوض النيل، والتى لو نالت حينذاك الاهتمام الذى تستحقه وحظيت بالاستمرارية لكانت علاقات مصر مع دول حوض النيل قد تحولت منذ نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن العشرين إلى علاقات شراكة قائمة على تعاون يلبى مصالح متبادلة ويبنى قاعدة لترتيبات إقليمية تكون مصر فيها فى موقع القلب. ومن هذه الطفرات أيضاً إطلاق حوار إفريقى أمريكى لاتينى كان لمصر دور السبق والريادة ولعب الدور التنسيقى فيه، كما أنه فتح المجال لتعزيز علاقات مصر مع دول محورية بأمريكا اللاتينية مثل البرازيل والمكسيك. ومنها أيضاًالاهتمام والإشراف على إصدار «كتب بيضاء» من جانب وزارة الخارجية، سواء باللغة العربية أو بلغات أخري، بغرض التوثيق لدور الدبلوماسية المصرية بشأن قضايا بعينها، مثل القضية الفلسطينية أو نهر النيل أو الأممالمتحدة أو حركة عدم الانحياز أو غير ذلك. ولكون الدكتور بطرس بطرس غالى أول عربى يتم انتخابه سكرتيراً عاماً للأمم المتحدة، والوحيد حتى اللحظة، فإن سبباً من أسباب عدم التجديد له لفترة ولاية ثانية بهذا المنصب، وذلك بخلاف غالبية من تولوه، كان موقفه بشأن نشر التقرير الخاص بمذبحة قانا فى لبنان آنذاك، بالرغم من ضغوط مورست عليه لدفعه لعدم نشر التقرير المذكور. وفى السياق نفسه، يذكر للدكتور بطرس بطرس غالي، بوازع الأكاديمى الرفيع والمفكر المتميز، الإشراف علي- والإسهام في- إصدار الأممالمتحدة كتباً تشكل علامات بارزة فى تاريخ المنظمة الدولية، ومن هذه الكتب ما لا تمثل حجر أساس ليس فقط على مستوى الأممالمتحدة أو التنظيم الدولى ككل، ولكن أيضاً على صعيد كل من القانون الدولى والعلاقات الدولية.وخلال هذه الكتب تم طرح مفاهيم عديدة مثرية وجديدة. كذلك سعى خلال توليه هذا المنصب إلى أن يسبغ عليه الشخصية والدور والإسهام والمكانة المفترضين للسكرتير العام للأمم المتحدة، وهو أمر لم يرق لبعض الأطراف مما دفعها للعمل من أجل الحيلولة دون التجديد له فى المنصب. وخلال توليه منصب سكرتير عام المنظمة الدولية للفرانكوفونية، نجح فى تحويلها إلى منظمة دولية لها اعتبارها فى كل المحافل وصار لها مواقف تجاه مختلف القضايا المطروحةعالمياً بدلاً من اقتصارها على تناول أوضاع اللغة والثقافة الفرنسية. كذلك كان له إسهامه فى جذب الكثير من دول العالم للسعى لكسب وضعية العضوية، أو المراقب، فى المنظمة نتيجة تعاظم دورها الدولى واتساع نطاق اهتماماتها. وقد تولى الدكتور بطرس بطرس غالى بعد عودته لمصر رئاسة المجلس القومى لحقوق الإنسان، من منطلق الرغبة فى الإسهام فى تطوير ثقافة حقوق الإنسان والارتقاء بأوضاع حقوق الإنسان فى مصر، وقد حاول ذلك ما استطاع وحسب ما سمحت به الأوضاع آنذاك، وهو منصب خرج منه وتولاه أكثر من مرة، كما كان يتولى قبل رحيله منصب الرئيس الشرفى للمجلس. وهكذا، سعينا فيما سبق لإلقاء بعض الضوء مجدداً، ومن منطلق التذكير المنصف ليس إلا، على أدوار لعبها الدكتور بطرس بطرس غالى فى مختلف المجالات وعلى كل المستويات المحلية والإقليمية والدولية، بدون إنكار حق أى إنسان فى الاختلاف معه فى بعض المواقف أو الرؤي، ولكن على أرضية الاحترام للرجل وتاريخه ودوره وخياراته وعطائه.