انتخابات النواب 2025.. الحصر العددي للأصوات بدائرة قليوب والقناطر في جولة الإعادة    حمدى رزق يكتب:«زغرودة» فى كنيسة ميلاد المسيح    مجلس الوزراء يستعرض أبرز أنشطة مصطفى مدبولى خلال الأسبوع.. إنفوجراف    رئيس هيئة سلامة الغذاء يكشف سبب تخفيف الفحوصات الأوروبية على الموالح    استكمال برامج التدريب بقرى حياة كريمة بأسوان    صبرى غنيم يكتب:النبت الأخضر فى مصر للطيران    العراق وإيطاليا يبحثان سبل تطوير التعاون العسكري والدفاعي    بوتين: روسيا مستعدة لإنهاء الصراع في أوكرانيا بالوسائل السلمية وكييف ترفض    سوريا عن إلغاء قانون "قيصر": تطور يفتح مرحلة جديدة من التعافي والاستقرار    علي ناصر محمد يروي تفاصيل الترتيبات المتعلقة بالوحدة اليمنية: خروجي من صنعاء كان شرطا    حصاد الرياضة المصرية اليوم الجمعة 19 -12- 2025    خدمات متكاملة من هيئة سكك حديد مصر لدعم كبار السن وذوى الهمم.. صور    بلومبرج: الشركة المالكة ل تيك توك تحقق أرباحًا ب50 مليار دولار خلال 2025    ننشر تفاصيل حكم سجن بلوجر شهيرة سنتين لاتهامها بحيازة مخدرات فى الهرم    بث مباشر.. الحلقة ال11 من برنامج دولة التلاوة بمشاركة 5 متسابقين    ياسر عبد الله يستعيد أرشيف السينما المنسية بمهرجان القاهرة للفيلم القصير    إلحق قدم فى جوائز الدولة التشجيعية.. آخر موعد 31 ديسمبر    على ناصر محمد يكشف تفاصيل الوحدة اليمنية: خروجى من صنعاء كان شرطًا    أهمية اللغة العربية ودورها في حفظ الهوية وبناء الحضارة    "اللي يضايق يضايق".. أحمد العوضي يعلن ارتباطه رسميًا بشكل مفاجئ    غدا.. دار الإفتاء تستطلع هلال شهر رجب لعام 1447 هجريا    الصحة: إرسال قافلة طبية فى التخصصات النادرة وكميات أدوية ومستلزمات للأشقاء بالسودان    رئيس الرقابة الصحية: مصر وضعت نموذجا إقليميا يحتذى به فى حوكمة النظام الصحى    الصحة: برنامج تدريبى لرفع كفاءة فرق مكافحة العدوى بمستشفيات ومراكز الصحة النفسية    كيفية التخلص من الوزن الزائد بشكل صحيح وآمن    اليونيفيل: لا توجد مؤشرات على إعادة تسليح حزب الله في جنوب لبنان    أول "نعش مستور" في الإسلام.. كريمة يكشف عن وصية السيدة فاطمة الزهراء قبل موتها    استمرار عطل شبكة Cloudflare عالميًا يؤثر على خدمات الإنترنت    لافروف: المحادثات الأمريكية الروسية لا تحتاج إلى مساعدة أوروبا    انخفاض درجات الحرارة وشبورة كثيفة على الطرق.. "الأرصاد" تُحذر من طقس الساعات المقبلة    ضبط قضايا اتجار في النقد الأجنبي بالسوق السوداء بقيمة 4 ملايين جنيه    شراكة استراتيجية بين طلعت مصطفى وماجد الفطيم لافتتاح أحدث فروع كارفور في سيليا    الداخلية تنظم ندوة حول الدور التكاملي لمؤسسات الدولة في مواجهة الأزمات والكوارث    جوارديولا يحسم الجدل حول مستقبله مع مانشستر سيتي    الداخلية تضبط 3 سيدات بالإسكندرية للإعلان عن أعمال منافية للآداب    حقيقة انتشار الأوبئة في المدارس؟.. مستشار الرئيس يُجيب    محافظ المنيا يعلن افتتاح 4 مساجد في 4 مراكز ضمن خطة وزارة الأوقاف لتطوير بيوت الله    تحرش لفظي بإعلامية يتسبب في وقوع حادث تصادم بالطريق الصحراوي في الجيزة    لافروف مشيدا بمصر: زيادة التبادل التجاري وتعاون استراتيجي في قناة السويس    لقاء السحاب بين أم كلثوم وعبد الوهاب فى الأوبرا    لقاء أدبي بفرع ثقافة الإسماعيلية حول أسس كتابة القصة القصيرة    وائل كفوري يمر بلحظات رعب بعد عطل مفاجى في طائرته    10 يناير موعد الإعلان عن نتيجة انتخابات مجلس النواب 2025    بعد توجيه الشكر لعلاء نبيل.. كيروش الأقرب لمنصب المدير الفني لاتحاد الكرة    جامعة عين شمس تواصل دعم الصناعة الوطنية من خلال معرض الشركات المصرية    انطلاق مبادرة لياقة بدنية في مراكز شباب دمياط    نيجيريا الأعلى وتونس وصيفًا.. القيمة التسويقية لمنتخبات المجموعة الثالثة بأمم إفريقيا 2025    في الجمعة المباركة.. تعرف على الأدعية المستحبة وساعات الاستجابه    وزيرتا التخطيط والتنمية المحلية ومحافظ سوهاج يتفقدون المنطقة الصناعية غرب جرجا ويزورون مصنع «الكومبريسور»    للقبض على 20 شخصًا عقب مشاجرة بين أنصار مرشحين بالقنطرة غرب بالإسماعيلية بعد إعلان نتائج الفرز    وزير الزراعة يعلن خفض المفوضية الأوروبية فحوصات الموالح المصرية إلى 10% بدلا من 20%    الزمالك في معسكر مغلق اليوم استعداداً للقاء حرس الحدود    اليوم.. الأهلي يواجه الجزيرة في دوري سيدات اليد    الدفاع الروسية: قواتنا سيطرت على 4 بلدات أوكرانية خلال الأيام الماضية    وزيرتا التخطيط والتنمية المحلية ومحافظ قنا يشهدون احتفالية بقصر الثقافة    المنتخب يخوض أولى تدريباته بمدينة أكادير المغربية استعدادا لأمم إفريقيا    فضل الخروج المبكر للمسجد يوم الجمعة – أجر وبركة وفضل عظيم    هل يجوز للمرأة صلاة الجمعة في المسجد.. توضيح الفقهاء اليوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجد لمن قال لا تصالح!
نشر في الأهرام اليومي يوم 10 - 03 - 2016

كوصية أخيرة من مبدع علي بعد خطوات من الله, صعد الشاعر أمل دنقل خشبة المسرح بصعوبة شديدة بسبب المرض اللعين الذي يكاد يفتك به.. لم يكن شاعرنا يود الذهاب لهذه الأمسية خوفا من نظرة الشفقة في العيون, بعد أن سقط شعر رأسه.. وأصبح يمشي بصعوبة شديدة بمساعدة عكازه,
كما نقص نصف وزنه, لكنه أمام تشجيع زوجته عبلة الرويني ذهب وألقي قصيدته الشهيرة لاتصالح كوصية أخيرة للجموع المحتشدة في ذلك اليوم من شهر أكتوبر عام.1982
لاتصالح ولو منحوك الذهب
أتري حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل تري؟...
هي أشياء لاتشتري..
....................................................
وأمام التصفيق الحاد ترك أمل عكازه ووقف علي قدميه كقصيدته العفية.. استمد من القصيدة قوة, واستمدت القصيدة ألقها من وهج روحه والكلمات, وبعد الندوة استمرت معه حالة النشوة والقوة حتي إنه عندما عاد إلي غرفته بالمستشفي صعد الطوابق السبعة علي قدميه دون مساعدة من أحد. كانت وصية أخيرة لأنه بعد شهور قليلة مات.
منذ قصيدة كلمات سبارتكوس الأخيرة التي كتبها في أبريل1962 أصبحت قصائده ودواوينه القليلة هي رسائل أو وصايا من أجل الحرية والكرامة فهو يحمل المجد للشيطان لانه تمرد واستطاع أن يقول لا أمام الذات والإلهية.. فهل هناك جرأة أكثر من ذلك؟.
وأن الله عز وجل لم يقتل الشيطان لأنه قال لا, وإنما جعله روحا أبدية لا تموت
فمن يقول لا.. من حقه الحياة أيضا.. وعند الله من حقه الخلود.
المجد للشيطان معبود الرياح
من قال لا في وجه من قالوا نعم
من علم الإنسان تمزيق العدم
من قال لا.. فلم يمت
وظل روحا أبدية الألم.
لكن هذا غير موجود عند البشر فإنهم لاغفرون له أبدا عندما تعارض أو تقول لا:
معلق أنا علي مشانق الصياح
وجبهتي لالموت محنيه
لأنني لم أحنها حية
كتب أمل دنقل هذه القصيدة بعد استفتاء من تلك الاستفتاءات الشهيرة التي كان يحصل فيها الزعيم علي99,99% عام1962 وكان المعارض الوحيد فيها إما ميت أو شيطان. من يقول لا يعلق علي مشانق القيصر في مقابل الذين ينالون الأمان ممن يقولون نعم لكنهم معلقون علي مشانق الخنوع:
ياأخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين منحدرين في نهاية المساء
لاتخجلوا.. ولترفعوا عيونكم إلي لإنكم معلقون جانبي.. علي مشانق القيصر.
ويكون الحل عند شاعرنا المولود بقرية القلعة بمحافظة قنا عام1940 هو الانحناء. فهل كان من ولد لأب من رجال الأزهر بصعيد البلاد العنيد يقصد مايقول.. بالطبع لا..
إنه فقط يقرأ الواقع المر.. الذي لا ينتهي من القياصرة!:
إذا رأيتم طفلي الذي تركته علي ذراعها فعلموه الإنحناء
علموه الإنحناء
ولاتحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت.. قيصر جديد!
لم يكد أمل دنقل يبلغ العاشرة من عمره حتي مات أبوه فتعلم من اليتم والألم والصراع مع الأهل حول الميراث أن يكون رجلا, كما تقول عبلة الرويني في كتابهاالجنوبي وأشتهر بين أقرانه الصغار بأنه لايعرف الابتسام.
وعلمه حصار الظالمين وظلم الأقربين الأنتباه الشديد للناس وعلمه أن يكره الظلم والزيف:
هل أنا كنت طفلا
أم أن الذي كان طفلا سواي؟
هذه الصورة العائلية..
كان أبي جالسا, وأنا واقف.. فتدلي يداي!
رفسة من فرس
تركت في جبيني شجا, وعلمت القلب أن يحترس.
التحق أمل دنقل بكلية الآداب جامعة القاهرة لكنه تركها بعد عام وعمل موظفا بمحكمة قنا ثم عمل في جمارك السويس ثم الاسكندرية.. وكان من الطبيعي أن يتمرد علي كل هذه الوظائف ويتركها.. شيء واحد كان يريده متمردا إنه الشعر.
عندما وقعت هزيمة1967 أدرك شاعرنا أنها الكارثة التي طالما حذر من وقوعها نتيجة لحكم الفرد وغياب الحرية والنقد.
استدعي قصة زرقاء اليمامة تلك السيدة التي كانت تري الراكب من مسيرة ثلاثة أيام, وكانت تنذر قومها دائما قبل هجوم العدو, فلايفاجئهم إلا وقد إستعدوا له حتي إحتال بعض الاعداء وقطعوا شجرا وأمسكوا أمامهم بأيديهم قبل الغزو ونظرت زرقاء اليمامة وقالت لقومها: إني أري الشجر قد أقبل إليكم.
فقالوا لها: لقد خرقت وذهب عقلك.. فكذبوها وفي الصباح باغتهم العدو.. واقتلعوا عينيها.. وماتت.
وعلي لسان زرقاء اليمامة أدان النظام العربي المهترئ أدان ضعفه وانهياره وهوانه.
في ديوانه الموجع.. البكاء بين يدي زرقاء اليمامة..
أيتها العرافة المقدسة..
جئت إليك.. مثخنا بالطعنات والدماء أزحف في معاطف القتلي وفوق الجثث المكدسة منكسر السيف, مغبر الجبين والأعضاء أسأل يازرقاء
عن وقفتي العزلاء بين السيف والجدار!
عن صرخة المرأة بين السبي.. والفرار؟
كيف حملت العار..
ثم مشيت دون أن أقتل نفسي؟!
دون أن أنهار؟!
أعتقد أن جوبلز كان يقصد أمثال أمل دنقل بقوله.. كلما رأيت مثقفا تحسست مسدسي
فقد كانت كلمات أمل أقوي من الرصاص كانت تضجر فتسري في العقول والقلوب وتشعلها بالغضب:
ها أنا في ساعة الطعام
ساعة أن تخاذل الكماة.. والرماة.. والفرسان دعيت للميدان
أنا الذي ماذقت لحم الضأن
أنا الذي لاحول لي أو شأن
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان
أدعي إلي الموت.. ولم أدع إلي المجالسة!
أمل دنقل الذي كان فقيدا من الوظيفة ومن المال, ولايملك ثمن كوب الشاي أو فنجان القهوة. كيف تستمع السلطة إليه؟ كيف وهو يعيش أغلب أوقاته في الشوارع والمقاهي والأزقة والحواري وتاريخ الأرصفة هو تاريخه الشخصي.. إنه صورة لمجاذيب الفن والشعر الذين لايلتفت أحد إلي مايقولون إلا بعد الموت. موت الفنان وموت الحقيقة:
أيتها العرافة المقدسة
ماذا تفيد الكلمات البائسة
قلت لهم ماقلت عن قوافل الغبار
فاتهموا عينيك يازرقاء بالبوار
قلت لهم ماقلت عن مسيرة الأشجار
فاستضحكوا من وهمك الثرثار!
وحين فوجئوا بحد السيف.. قايضوا بنا..
وألتمسوا النجاة والفرار!
{ نحن نعرف العهد القديم والعهد الجديد, لكن ماذا عن العهد الآتي؟ إنه عهد أمل دنقل الذي بشر به في ديوان بهذا الاسم عام.1975 عهد أو ديوان صلاته صرخة ضد العسس في كل عصر ومكان:
أبانا الذي في المباحث.. نحن رعاياك باق لك الجبروت وباق لنا السكوت
وباق لمن تحرس الرهبوت
في هذا العهد يتحسر علي حال العقل الذي تدرجه السلطة في قوائم من يكرهون الوطن ويوقفه الجند علي الحدود.
أصبح العقل مغتربا يتسول يقذفه صبيه بالحجارة, يوقفه الجند عند الحدود, وتسحب منه الحكومات جنسية الوطن.. وتدرجه في قوائم من يكرهون الوطن.
قلت فليكن العقل في الأرض, لكن لم يكن.. سقط العقل في دورة النفي والسجن.. حتي يجن.. ورأي الرب ذلك غير حسن.
وقد تحولت قصيدةأغنية الكعكة الحجرية التي كتبها عام1972 تأييدا لمظاهرات الطلبة التي طالبت بالحسم ضد إسرائيل, تحولت إلي منفستو الحركة الطلابية في ذلك الوقت, وأدي نشرها في مجلة سنابل التي كان يصدرها الشاعر محمد عفيفي مطر إلي إغلاق المجلة:
أيها الواقفون علي حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة!
سقط الموت, وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح!
المنازل أضرحة
والزنازن أضرحة
والمدي.. أضرحة
في عام1975 ذهبت الصحفية الشابة عبلة الرويني لاجراء حوار مع أمل دنقل لجريدة الأخبار, ولم تسمع لتحذيرات الكثيرين من عصبيته. وبعد الوجل والخوف كان الحوار والاعجاب أيضا. لكن الزواج كان مسألة شائكة جدا فهو فقير إلا من الموهبة, وهي قادمة من مدارس الراهبات الفرنسيات وتنتمي لأسرة محافظة وثرية. وحاول أمل دنقل أن يشرح الموقف المحير قائلا: انني أتكلم عن ثمن كوب الشاي الذي لابد أن أدعوك إليه, اني أتكلم عن ثمن علبة السجائر التي لابد من توافرها معي حتي لا أستعير سجائرك, إن القاص يحيي الطاهر عبد الله يغضب حين يري معي علبة سجائر كاملة, إن علبة السجائر ليست فقط رمز ثراء بيننا بل اشارة إلي ثراء مريب يستدعي غضب قصاص كبير مثل يحيي. انني أتكلم عن الجوع الذي يحاصرني يومين, فأنام هربا منه, ثم أستيقظ للقائك. انك تعملين وأنا لا أعمل.. إن اختياراتي ليس عليك أن تتحملي تبعاتها وعذاباتها. وتقول عبلة الرويني: كأني لم أسمع شيئا من هذا الذي انفجر داخله بعد سنتين من معرفته, كنت اعتبر ذلك دخولا في تفصيلات هامشية لا تمس جوهر الحب وجوهر الحقيقة. قلت له: أمل اننا سنتزوج ليس فقط انتصارا للحب ولكن انتصارا لاختياراتك:
انني أول الفقراء الذين يعيشون مغتربين يموتون محتسبين لدي العزاء.
قلت: فلتكن الأرض لي.. ولهم!
وأنا بينهم
حين أخلع عني ثياب السماء
فأنا أتقدس في صرخة الجوع فوق الفراش الخشن!.
وتقول عبلة الرويني إن العلاقة بيننا كان يسودها التوتر والقلق, يكتب لها يوما لو لم أكن أحبك كثيرا ما تحملت حساسيتك لحظة واحدة.. تقولين عني دائما ما أدهش كثيرا عند سماعه.. إنني لا أبحث فيك عن الزهو الاجتماعي ولا المتعة السريعة العابرة ولكني أريد علاقة كما لو كنت جالسا مع نفسي في غرفة مغلقة.
وتقول: ظللنا فترة طويلة نبحث عن شكل مريح للحب بيننا, ولم نجده في أغلب الأحيان, فما نكاد نلتقي إلا ونتشاجر, وكأن ما بيننا غضب وعناد ساطع, كنا أشبه بالمتنافرين دائما, في لحظة نحشو العالم في جيوبنا, ونلملم كل الأوراق الخضراء وصوت العصافير ولحظة أخري نمزق كل الأوراق ونذبح العصافير.
ويقول لها: قد لا تعرفين أنني ظللت إلي عهد قريب أخجل من كوني شاعرا لأن الشاعر يقترن في أذهان الناس بالرقة والنعومة, وفجأة ها أنت تطلبين مني دفعة واحدة, أن أصبح رقيقا وهادئا وناعما يعرف كيف ينمق الكلمات.
وبعد الزواج العجيب تقول عبلة: أمل زوج كسول لا يفكر في حياتنا كأسرة, وكأن كل ما في الأمر أنه بدل من أن كان يحيا بمفرده, أصبح يحيا مع صديق آخر, لا تشغله مشاكل ولا مواعيد ولا أي شيء, يحترف الصمت ويهرب من كل أشكال الحوار, وكل ما يشغله هو كيف يقرأ ويكتب في هدوء.
كان يعمل بمنظمة التضامن الأفرو أسيوي بمرتب لا يتجاوز30 جنيها وكان راتبي50 جنيها بينما إيجار الشقة المفروشة كان50 جنيها غير أجر الشغالة10 جنيهات. أي مكان ينبغي أن نعيش ب20 جنيها فقط:
قلت ليكن الحب في الأرض لكنه لم يكن
أصبح الحب لمن يملكون الثمن
ورأي الرب ذلك غير حسن.
جاء ديوانه أقوال جديدة علي حرب البسوس موجها ضد الصلح مع إسرائيل. يقول أمل دنقل حاولت أن أقدم في هذه المجموعة حرب البسوس التي استمرت أربعين سنة رؤيا معاصرة. وقد حاولت أن أجعل من كليب رمزا للمجد العربي القتيل أو الأرض العربية السلبية التي تريد أن تعود للحياة مرة أخري ولا تري سبيلا لعودتها إلا بالدم.. وبالدم وحده.. وهذه المجموعة عبارة عن قصائد مختلفة, استحضرت شخصيات الحرب وجعلت كلا منها يدلي شهادتها التاريخية حول رؤيتها الخاصة.
وكانت الوصايا العشر التي قالها كليب لأخيه الأمير سالم الزبر بعد أن غمس إصبعه في الدم وخط علي البلاط هي:
لا تصالح علي الدم... حتي بدم
لا تصالح ولو قيل رأس برأس
لا تصالح...
ولو حرمتك الرقاد صرخات الندامة
لا تصالح
ولو توجوك بتاج الإمارة
لا تصالح
ولو قال من مال عن الصدام
ما بنا طاقة لامتشاق الحسام
ويستشهد بقول اليمامة ابنة كليب ردا علي الوفود التي سعت في الصلح... أنا لا أصالح حتي يقوم والدي.. ونراه راكبا يريد لقاكم أبي لا مزيد!.
أريد أبي عند بوابة القصر فوق حصان الحقيقة منتصبا من جديد, ولا أطلب المستحيل, ولكن العدل..
لقد حاولت كثيرا أن أعرف الكيمياء التي تتحكم في حسن استقبال القصيدة يقول أمل لكني لم أدرك كنهها, فكم من قصيدة أعجبت بها, لكنها لم تلق اهتماما مثل أقوال اليمامة ومراثيها بينما هناك قصائد كثيرة لم أكن راضيا عنها فإذا بها تصبح أشهر قصائدي:
أقول لكم أيها الناس كونوا أناسا!
هي النار, وهي اللسان الذي يتكلم بالحق!/ إن الجروح يطهرها الكي/ والسيف يصقله الكير/ والخبز ينضجه الوهج..
فجأة أصيب أمل دنقل في الاربعينيات من عمره بالمرض اللعين لكن ذلك لم يمنعه من كتابة الشعر, بل جاء ديوانه الأخير أوراق الفرقة8 ذروة الإبداع عنده, وبه اكتملت رسالته أو فلسفته التي كرس لها عمره القصير.
لقد عاش تجربة جمالية جديدة أطلق عليها إعادة اكتشاف الجمال في نفس الإنسان, حيث جاء شعره الأخير يقطر شجنا وحزنا نبيلا واختفت منه الخطابة والقضية السياسية لمصلحة الإحاسيس الإنسانية بضعفها وقلقها الذي قاد الشاعر إلي حقيقة الوجود والعدم.
عاش أمل بالحجرة رقم8 بمعهد الأورام عاما ونصف العام, كانت أكثر مدة يعيشها في مكان واحد, فلم يعش في أي شقة مثل هذه المدة.
وعندما زاره يوسف إدريس طلب منه قصيدة بنشرها مع المقال الذي سيكتبه عنه في الأهرام.. فأعطاه قصيدة ضد من في غرف العمليات كان نقاب الأطباء أبيض لون المعاطف, تاج الحكيمات أبيض أردية الراهبات, والملاءات لون الأسرة, أربطة الشاش والقطن قرص المنوم, أنبوبة المصل كوب اللبن كل هذا يشيع بقلبي الوهن كل هذا البياض يذكرني بالكفن!.
وكانت قصيدة الجنوبي هي آخر ما كتب والتي تنبأ فيها بموته:
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه
يشتهي أن يلاقي اثنتين
الحقيقة والأوجه الغائبة
وبالفعل التقي بحقيقة الموت في صباح السبت21 مايو..1983 وكان وجهه هادئا, وهم يغلقون عينيه التي طالما كانت تشع بالإبداع, مات وعمره43 عاما... انطفأ الجسد لكن جذوة اشعاره وقصائده لن تنطفئ أبدا, بل إنها ستعيش مادام هناك ظلم وقهر, وهي أشياء لن تروح من أوطاننا ابدا.
وكتب عنه يوسف إدريس.. لن أطلب منكم الوقوف حدادا, فنحن إذا وقفنا حدادا, سيكون الحداد علي عصر طويل قادم, حدادا علي العصر الذي سيمضي حتي يشب فيه رجال لهم شيم الرجال الذين كان يراهم أمل دنقل... وكرم الرجال الذين كان يحلم بهم أمل دنقل, وشرف ونبل وإنسانية وشجاعة ورقة الرجال الذين استشهد أمل دنقل, وهو يراهم, هم البشر ويحلم برؤيتهم.
بعد كل هذه السنوات من الرحيل الجسدي أود أن أزف إليك في الابدية بأن الشعب المصري يسير علي الوصية, لم يصالح رغم المعاهدات والسفارات والابتسامات المزيفة.. فهل هو سحر القصيدة, أم روح الشعب التي لمستها في إبداعك العبقري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.