الأحلام والجمال والفن أحاسيس لا ترتبط بالمهن وليست حكرا علي فئات بعينها, ومن الممكن أن يكون المبدع وصاحب الأحاسيس الناعمة الجميلة يعمل في نفس الوقت في مهنة خطرة أو خشنة.. مهنة تستدعي أن يحمل سلاحه بين يديه ويكون مستعدا ويقظا في كل لحظة, يعرف كيف يطلق النيران ويحدد الأهداف المتحركة والثابته, ولكنه ما أن يغادر ثكناته العسكرية ويسلم سلاحه الميري ويصبح بعيدا عن مرمي النيران حتي تسبقه أحلامه وتتحرك أحاسيسه فتظهر إبداعاته, هذا ما تؤكده الوثيقة التي أعرضها هذا الأسبوع والتي تعتبر ورقة قديمة غير إعتيادية بل تكاد تكون عبقرية فهي تقدم الدليل الأكيد علي أن الجندية ليست دائما صرامة وشدة وواقعية بل يمكن أن يكون من بين أفرادها فنانون ومبتكرون ومهندسون متميزون.. ووثيقة اليوم ورقة صفراء شأنها شأن كل الوثائق القديمة ولكنها تحكي حكاية غريبة.. حكاية بكباشي أو ضابط في نظارة الحربية المصرية عام1895 يتم مكافأته من قبل نظارة الحربية لأمر غريب, فلم ينتصر في معركة حربية ولم يأسر الأعداء بل فعل شيئا غريبا عن طبيعة عمله وعلي ذلك الزمان.. ولكن السبب توضحه الوثيقة المرسلة من رئاسة مجلس النظار الي نظارة الأشغال وتحمل توقيع مصطفي فهمي ناظر الحربية نائبا عن رئيس مجلس النظار ونصها كالآتي: بالجلسة المنعقدة يوم السبت الموافق6 يولية5981 إطلع المجلس علي المذكرة المقدمة من نظارة الأشغال بتاريخ51 يونية الماضي بطلب الترخيص بصرف مكافأة قدرها001 جنيه مصري الي حضرة البكباشي مصطفي أفندي رمزي لتقديمه رسما عن إنشاء دار للتحف المصرية وذلك تنشيطا له ولسواه من المصريين علي الإشتراك في مثل هذه المشروعات وإطلع المجلس أيضا علي مذكرة المالية بتفويض الرأي في ذلك للمجلس, وبالمداولة صدق المجلس علي صرف المكافأة لحضرة البكباشي وبناء عليه قد كتب لنظارة المالية بما لزم عن ذلك, وإقتضي تحريره لسعادتكم لإجراء مقتضي هذا القرار أفندم ومما لاشك فيه تعتبر هذه الورقة وثيقة إنسانية خطيرة فهي تعرض لحدث مهم هو الإستعداد لإنشاء المتحف المصري الذي كان يطلق عليه دار الآثار المصرية وتبين أن المصريين علي إختلاف مشاربهم وأعمالهم كانوا مهتمين بهذا المشروع الضخم مما يشي بحالة تنويرية كانت تنتشر في المجتمع في ذلك الوقت وإلا كيف عرف أحد الضباط بهذا المشروع, ولكن هذا الضابط الذي لم أستطع الوصول الي أي معلومة عنه لم يكتف بالمعرفة بل شمر عن سواعده وبحث وعرف كل التفاصيل وإنكب علي الورق وأعد تصميمات ورسومات هندسية للمتحف ولا أعرف هل كانت له خبرة بالعمارة والهندسة أهلته لهذا الموضوع أم فقط حركته أحاسيسه وشغفه بالأثار المصرية, وفي النهاية أعد الرسومات وقدمها لنظارة الأشغال التي بدورها ثمنت ما فعل ورفعت طلبا لمجلس النظار تطلب فيه تقديم مكافأة لهذا البكباشي الذي لم يقف سلبيا أمام أحد المشروعات القومية بل أراد أن يشارك, وبالفعل وافق مجلس النظار علي منحه001 جنيه مصري وهو رقم يعتبر ثروة بمقاييس ذلك الزمان وأعلنت الحكومة أن ذلك تشجيعا لكل المصريين للمشاركة في المشروعات المهمة مثلما فعل هذا البكباشي... والحقيقة أنني لم أجد في الوثائق ما يوضح هل تم إستخدام رسومات هذا المهندس في إنشاء المتحف أم لا ؟ لكن الأكيد أنه تمت مكافأته علي فكرة المشاركة حتي لو لم تستخدم رسوماته. ولحكاية إنشاء المتحف المصري قصة طويلة تعود بدايتها الي عصر محمد علي باشا الذي أصدر مرسوما عام5381 يقضي بإنشاء مصلحة الآثار والمتحف المصريبإشراف الشيخ رفاعة الطهطاوي كما أصدر قرارا بمنع الإتجار في الآثار المصرية وتهريبها الي الخارج, وكان المتحف المصري في ذلك الوقت يطل علي ضفاف بركة الأزبكية ثم تم إلحاقه بمدرسة الألسن, وقد كلف محمد علي باشا لينان بك وزير المعارف بوضع بيان شامل عن المناطق الأثرية وإرسال الآثار المهمة إلي المتحف, و لكن لم يكلل هذا العمل بالنجاح بسبب وفاة محمد علي عام9481, وعادت ظاهرة الاتجار في الآثار المصرية إلي الظهور, وأخذت المجموعة التي كان يضمها المتحف الذي أقيم في الأزبكية في الانكماش فتم نقلها إلي قلعة صلاح الدين في صالة واحدة بنظارة المعارف. ومما زاد الأمر سوءا أنه أثناء زيارة الدوق مكسميليان النمساوي للقلعة أبدي إهتماما بهذه الأثار فقام والي مصر عباس باشا الأول بإهدائها إليه دون أن يبقي علي شيء منهاإلي أن جاء أوجيست مارييت الفرنسي الذي قام باكتشاف مدخل السرابيوم بسقارة وسعي لإقناع أولي الأمر بإنشاء مصلحة للآثار المصرية ومتحف مصري. وفي عام8581 وافق سعيد باشا علي إنشاء مصلحة للآثار المصرية, وقام بتعيينه مأمورا لأعمال الآثار في مصر وإدارة الحفائرفأنشأ مخزنا للآثار علي ضفاف النيل ببولاق تحول فيما بعد إلي متحفسمي متحف للآثار المصرية في بولاق. وقد تم بناؤه في عهد الخديو إسماعيل وافتتح عام3681 إلا أنه تعرض لفيضان النيل في عام1887 فغمرت المياه قاعات المتحف وفقدت غالبية المعروضات. ثم حاول جاستون ماسبيرو الذي خلف مارييت نقل المتحف من مكانه في بولاق ولكن لم يحالفه الحظ. وفي9881 وصل الحال بالمبني الذي يحوي مجموعات الآثار إلي ذروة ازدحامه حيث لم تعد هناك حجرات كافية سواء في قاعات العرض أوالمخازن للمزيد من الآثار فقام الخديو إسماعيل بالتنازل عن أحد قصوره بالجيزة ليكون المقر الجديد للمتحف. وما بين صيف ونهاية1889 تم نقل جميع الآثار من متحف بولاق إلي الجيزة, ولبكن هنا ظهرت الحاجة الي إنشاء متحف جديد تم تحديد مكانه في ميدان الإسماعيلية( التحرير) في يناير7981 بدأ حفر الأساسات لمبني المتحف الجديد علي إمتداد ثكنات الجيش البريطاني عند قصر النيل. واحتفل بوضع حجر الأساس في الأول من أبريل من العام نفسه في حضور الأمير عباس حلمي وتم الانتهاء من المشروع علي يد الألماني هرمان جرابو. وفي3091 عينت مصلحة الآثار المهندس المعماري الإيطالي إليساندرو بارازنتي الذي تسلم مفاتيح المتحف ونقل المجموعات الأثرية من قصر الجيزة إلي المتحف الجديد وهي العملية التي استخدم خلالها خمسة آلاف عربة خشبية,أما الآثار الضخمة فقد تم نقلها علي قطارين سيرا ذهابا وعودة نحو تسع عشرة مرة بين الجيزة والمتحف الجديد.. الجدير بالذكر أنالذي وضع تصميمات المتحف عام1896 هو المهندس الفرنسي مارسيل دورنو وقد صممه علي النسق الكلاسيكي الذي يتناسب مع الآثار القديمة والكلاسيكية وإستخدمت في بنائه الخرسانة المسلحة لأول مرة في بمصر. والله علي مصر وأثارها ومتاحفها زمان.