صدق النية يلهمك افكارا ممتازة وجريئة وجديدة لم يسبقك اليها احد من قبل.. هذا الدرس لم يكتبه الحاج محمود العربي, في كتابه الممتع( سر حياتي), لكني تعلمته منه, بسبب اختياره, لمكان حفل توقيع الكتاب! في مصانعه بين المكن الدائر ومع الاف من العمال والموظفين الذين لا تعطلهم زيارتنا عن العمل بهمة وسرعة واهتمام,دعانا وقضينا اليوم,وكأننا نحتفل معه ونشاركه مشهد النهاية السعيد,لقصة كفاح طويلة, حكي تفاصيلها في كتابه, وكشف فيها عن مفاتيح نجاحه, وكأنه يعطي المفاتيح لمن يحتاجها بكل سرور وانسانية, متعمدا علي ان يقدم للشباب نموذجا عمليا لانتصار فكرة العمل والصبر, في زمن قل فيه الصبر,وغلبت فيه الانتهازية علي ثقافة من جد وجد ومن زرع حصد!! ........................................................................ طفولة متحدثاعن قريته( ابو رقبة) اشمون منوفية,كتب يقول: قبل ان اصبح تاجرا مرموقا بل رئيسا لاتحاد غرف تجارة مصر ورجل صناعة محترفا يجوب العالم بحثا عن احدث صيحات التكنولوجيا,ليأتي بها الي مصانعه العديدة, اتذكر طفولتي وكنت قد جاوزت الخامسة بقليل, حين فاجأتني رغبة شديدة ان اسعي لكسب رزقي كما يفعل اخوتي الكبار كنا في شهر رمضان المبارك,وقلت لاخي علي( عاوز اشتغل واكسب) تعجب مما قلت لصغر سني وقتها.. لكني اكملت كلامي وقلت له اني وفرت30 قرشا وعاوز اشتري بيهم بلالين وبمب وحرب اطاليا واحطهم فوق المصطبة اللي قدام بيتنا وابيعهم في العيد! واستجاب اخي علي لطلبي وشجعني عليه حين لمح الاصرار في عيني.. لم افهم ما هي الدوافع التي ساقتني للتفكير بهذه الطريقة! ان سرا ما يكمن في مزاولة التجارة ومن تتولد في دمه جينات حبها ويبذل يها زهرة شبابه ويجرب حلاوة ارباحها, من الصعب جدا ان يتركها ليعمل في مجال آخر. وفي نفس الفصل من الكتاب يذكر: كانت الفلاحة هي المهنة السائدة في ذلك الوقت كنت اعشق رؤية المحصول وهو يكبر شيئا فشيئا.. انك تتعلم العطاء من الزراعة ازرع جميلا ولو في غير موضعه فلن يضيع جميل اينما زرعا لقد وعيت الدرس تماما من مساعدتي لوالدي في زراعة الارض,وفهمت طبيعة التواصل والتكامل بين الحياة والموت,وتعلمت طبيعة العلاقة الوثيقة بين السبب والنتيجة. لابد من بذل الجهد المناسب والكافي لكي يكتمل اي عمل ويبدأ في اخراج ثماره. صفعات علي الوجه بعد الانتقال من قرية( ابو رقبة) الي القاهرة العاصمة الواسعة, كان في انتظار محمود3 صفعات تلقاها علي وجهه في يوم واحد, ويبدو انه كان يوما اغبر, يحكي لنا عنه السيناريست خالد صالح مصطفي, الذي اعد مادة الكتاب وصاغ لغته ببراعة وبساطة مذهلة, بعد6 اعوام متوالية, قضاها في جلسات عمل واستماع وزيارت للاماكن والاشخاص والمواقع الحقيقية, التي جرت بها احداث قصة حياة المؤلف. يقول خالد صالح: لقد جلست الي الحاج محمود العربي بعد ان صار ذلك الرجل العصامي الشهير, الذي تجاوز الثمانين من عمره, ويمتلك امبراطورية صناعية ضخمة لها اسم تجاري معروف محليا وعالميا, لكني لا أنسي, كيف تغيرت ملامح وجهه وهو يروي لي عن ذلك اليوم.. كان اخي يعمل في محل اقمشة( عبد العزيز الديب) بالموسكي,الحي التجاري الاشهر حينها في مصر.وجاء لي بعمل في مصنع عطور بالموسكي كان صاحبه صديقا له. لم يكن مصنعا في الحقيقة, كان عبارة عن ورشة في محل صغير وكان عملي لا يتعدي اغلاق الزجاجات بالفلة بعد تعبئتها ثم بالغطاء الاساسي ثم الصاق تيكت الماركة المسجلة. لم اتحمل هذا العمل لاكثر من شهر وطلبت من اخي البحث عن عمل غيره. سألني اخي عن السبب, قلت انني جئت للقاهرة كي اعمل في البيع والشراء.. اريد ان اتعامل مع الناس واعمل بالتجارة(انا ما جيتش اقفل القزايز بالفلة يا علي)! ضحك اخي ووعدني بمساعدتي في البحث عن عمل فيه بيع وشراء واحمد الله تعالي انه اقتنع بوجهة نظري ولم يقابل رغبتي بعصبية او سخرية. رحمة الله عليه.. لقد كانت استجابته تلك سببا مباشرا في نجاح الحكاية( حكاية العربي كشركة وعائلة)! بعد ايام جاء لي اخي بعمل اخر خلف مسجد سيدنا الحسين, في محل صغير لكنه كان مليئا بالخردوات والادوات المكتبية ولعب الاطفال الرخيصة والسجائر.كان ذلك هو ما اريده تماما.. كان صاحب المحل اسمه عبد الرازق عفيفي ولكنه اشتهر باسم عم رزق. علمني اهم درس في حياتي التجارية كلها( أفضل شيء ان تكسب قليلا وتبيع كثيرا) كانت ارباح المحل برغم صغره وفيرة. كان عم رزق يكتفي بأن يضيف2% علي سعر الاصناف بينما جيراننا يبيعون بهامش ربح5% او احيانا10% فكان فارق السعر يتسبب في اقبال الناس علي محلنا بالذات. استمر عملي مع عم رزق حوالي7 سنوات.لم تكن كل ايامي علي مايرام,ولكن كان اغلبها جيدا وفي يوم( كان اكثر الايام صعوبة في حياتي) طلب مني عم رزق ان اذهب لاشتري دستتين من رباط الحذاء ماركة عبد الوهاب. ذهبت لاشتريه من محل الجملة فأخبرني صاحبه انه لا يوجد عنده ماركة عبد الوهاب وقال ان لديه صنف, اخر افضل وارخص فاشتريته ورجعت. فلما رآني عم رزق قد اتيت له بماركة اخري,صفعني علي وجهي غاضبا وامرني ان اقوم بارجاعها ولا اعود الا ومعي رباط عبد الوهاب الذي قال لي عليه.. ولما وصلت لصاحب محل الجملة لاعيد له الاربطة, غضب هو الاخر وصفعني علي وجهي, ورفض ان يستعيد بضاعته ويعطيني ثمنها. في طريق عودتي لمحل عم رزق كنت شارد الذهن ومشتتا تماما لا ادري ماذا افعل ؟؟ لم انتبه وقتها لصوت كلاكس عربة التاكسي التي كانت تسير بالقرب مني, ويبدو ان سائقها نبهني كثيرا ولم اسمعه وقتها,بسبب مخاوفي وافكاري,نزل من التاكسي واسرع نحوي وصفعني هو الاخر علي وجهي.. لثالث مرة علي التوالي في يوم واحد! كان يوما عصيبا لم اصادف مثله في حياتي.. وكيف لطفل في الثانية عشرة من عمره ان يتحمل هذا الضغط النفسي والالم الجسدي ؟ في تلك الليلة لاحظ اخي حزني الشديد ورفضت تماما ان اتعشي معه كما تعودنا وحكيت له وانا ابكي.. فطيب خاطري وذكرني بضرورة الصبر كي انجح وحتي احقق امل والدي. للاسف كان ولا يزال التعامل مع الاطفال الذين يعملون في المحلات التجارية او الورش الصناعية يتسم بكثير من الغلظة والعنف.ومع ذلك فانني لا اجد مانعا من عمل الاطفال.. فلولا عملي مع اخوتي ونحن صغار لما اكتسبنا ما اكتسبناه من الخبرة ومن حب الناس والتجار من حولنا. العمل الشريف للصغار يمنع مخالفات وتعديات اخلاقية كثيرة قد يسببها الفقر والحاجة او نزول النساء للعمل مضطرة في اماكن لا يتوافر فيها تقوي الله تعالي. حفلة أم كلثوم. كانت اغنيات ام كلثوم من الاشياء التي كانت تخفف عني وقع الارهاق الشديد وتنسيني الكثير من هموم الدنيا وضغوط العمل كنت استمع باعجاب شديد لاغنيات رق الحبيب و عودت عيني علي رؤياك وانا في انتظارك كثيرا ما تمنيت لو امتلكت ثمن التذكرة كي اراها وهي تغني علي المسرح ولكن ذلك لم يتيسر لي وانا بائع شاب في الموسكي راتبي في احسن حالاته بعد سنوات طويلة من العمل كان27 جنيها, بينما كانت تذكرة الحفل قيمتها10 جنيهات. اخي الاكبر محمد حضر حفلات ام كلثوم عدة مرات.. كان يشتري ارخص تذكرة في اخر الصالة وذات مرة صادف ان صديقا له كان يعمل بالمسرح الذي اقيم عليه الحفل واراد الصديق ان يكرم محمدا فما ان راي احد المشاهدين الاثرياء في الصفوف الاولي غادر الحفل من منتصفه حتي اسرع الي اخي واخذه الي المكان الخاوي حيث سعر التذكرة كان يصل الي50 جنيها( كانت ثروة ايامها) وعاد محمد ليحكي لنا بانبهار كيف كان وقع غناء ام كلثوم عليه وهو يراها عن قرب. اما غالب الشعب فكان يتابع حفلاتها من خلال الراديو.. كنا نجلس طويلا في مقهي بوسط البلد به جهاز راديو ضخم نتابع الحفل حتي نهايته ولا ندفع سوي ثمن المشروبات فقط وسبحان الله حين تيسرت وانفرجت الامور المادية بعد ذلك لم يعد الامر يأخذ من اهتمامي تلك الدرجة ولم يعد لدي وقت لحضور الحفلات, اصبح عملي يأخذ كل وقتي.. كلما توافرت المادة زادت الواجبات! زوجتي الطيبة تزوجت هانم سنة1950 وكان عمري وقتها18 سنة,قدمت مهرا وشبكة كلفتني40 جنيها كاملة.. الشبكة23 جنيها والمهر17 جنيها. بذلك المهر اشترينا( عفش) متواضعا مناسبا لظروفنا في تلك الايام, كان عبارة عن مرتبة ومخدتين وحصيرة وبعض الاواني النحاسية والصندوق الخشبي المشغول بالنحاس وصينية تتسع لست قلل عليها اغطية ملونة متميزة من البلاستيك وكان اول ظهور لغطيان القلل البلاستيك في تلك الاونة وكانت العائلات تعتبر تلك الاغطية الملونة من الاشياء المهمة للغاية في جهاز العروسين! اقمنا الفرح في سرادق بجوار شجرة توت ضخمة في قريتنا.. كانت ليلة جميلة وجئنا بالمطرب محمد الكحلاوي الذي كان ايامها مطربا شعبيا يغني بطريقة محمد طه قبل ان يتخصص في المديح النبوي رحمة الله عليك يا ابي.. تذكرت ابي ليلتها ولم تفارقني صورته كزوج طيب صالح يتقي الله في زوجته انني اميل نحو الزواج المبكر للشباب واوقن ان له بركة كبيرة ولقد سعدت مثلا حين اسر لي حفيدي يوسف ممدوح برغبته في الزواج من زميلة له في كلية العلوم والفنون التطبيقية وكان عمره21 سنة. نظرا لانشغالي في عملي الشاق فقد كانت المسئولية الخاصة بالتربية وادارة شئون المنزل تقع علي عاتق زوجتي كانت تعمل من السابعة صباحا حتي قرب منتصف الليل كل يوم ولا تشكو ولم اشعر ابدا باي تقصير منها في البيت كانت تحب النظافة وتعتبرها احد مظاهر الستر وكانت ترسي في اولادنا قيما من اهمها الرضا والصبر علي الظروف مهما كانت صعبة وشكر الله علي النعمة فكرة ان يحب احد اولادنا هذا الطعام ولا يحب ذاك لم تكن موجودة في بيتنا نهائيا فمادام الطعام حلالا فلابد من اكله.. كانت حازمة وتساوي مابين البنين والبنات في عمل البيت. حين سافرت معي الي اليابان في بداية الثمانينات في المؤتمر السنوي لموزعي توشيبا سألها بعض اليابانيين لماذا انجبت كل هذا العدد من الاولاد(6 بنين وبنات) ؟ قالت انها عاشت وحيدة والديها بلا اخوات,فشعرت ان ربنا وهبها هؤلاء الاولاد كي يكونوا لها ابناء واخوات وتصير لها عائلة كبيرة! في سنوات زواجنا الاولي كانت تصنع السجاد المزركش الجميل من قصاقيص وفضلات القماش الزائد عن الحاجة. وكنت احيانا اصدر لها قرارات عصبية نتيجة ضغوط العمل فتستجيب وحتي لو جادلتني في امر لا تستمر طويلا في الجدال حتي لا تدخل الضيق الي نفسي او ترهقني معنويا. دروس الحياة والعمل لماذا يعترض اعداء النجاح طريق من يريد خيرا لعائلته ولشعبه ولبلده ؟؟ لقد من علي الله بان جعلني مع اخوتي نموذجا يمكن ان يحتذيه اي شاب او رجل لم يقدر له ان يحصل علي شهادة جامعية عالية فعوض ذلك بالجهد المتواصل وبالكفاح الشريف والعمل الجماعي حتي نجحنا في ان نحصل علي ثقة الجميع الا اصحاب النفوس المريضة حصلنا علي اعلي وسام من الامبراطور الياباني بلا سند من مسئول او عظيم ولا شهادات ولا راس مال كبير ولا خبرات عريضة ولا مساعدة الا من رب العالمين ومن كتابه الكريم انه اعظم سند وهو الركن الشديد انني اوقن تماما ان المخرج من اي ازمة فردية او جماعية يكون بالعمل ثم بالعمل ثم بالعمل مع المزيد من ذكر الله تعالي الذكر حصن حصين يجنبك مكر الماكرين. رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار) أنني اؤكد انه لولا تثبيت الله لي لما استطعت ان اكمل عملي العام- رئيسا للغرفة التجارية8 سنوات بنجاح- فقد لاقيت اعاقةشديدة نحو استمرار خدمتي بها وواجهت محاولات مستميتة وحروبا خفية ومعلنة لابعادي عن منصبي وتسديد ضربات متوالية ضدي. سياسة في سياسة وبوضوح شديد يروي محمود العربي في احد اهم فصول كتابه الشيق, تجربته المريرة في دخول البرلمان2001 وكيف انه هجر مجلس الشعب والسياسة الي الابد, بعد ان اكتشف علي حد وصفه انه من المستحيل الجمع بين التجارة او الاستثمار عموما وبين السياسة في جو رديء, كانت السلطة لا تريد فيه غير الكومبارس, والهياكل الشكلية الفارغة من الروح والمضمون, ولا تريد اعضاء مجلس شعب حقيقيين. كان محمود العربي زاهدا تماما في مقعد البرلمان والسلطة لم يكن في احتياج لشيء او لاحد, بل اننا كنا نلح عليه ليدخل الانتخابات ونحن نعلم انه سيكتسح وكان يعتذر كل مرة بأدب واصرار شديد. هذه الشهادة لم ترد في الكتاب, ربما حرجا, من ان يشكر المؤلف في نفسه, لكنها كلمة حق اراد ان يسجلها له اللواء عبد الحميد خيرت, احد اهم قياديي جهاز امن الدولة في عهد مبارك. يقول اللواء خيرت: كنت مكلفا بلقاء الحاج محمود العربي واقناعه بتكرار تجربة خوض الانتخابات البرلمانية, كنا نعرف ان شعبيته كاسحة بين العمال وفي مسقط رأسه اشمون منوفية, ولأنه رجل خير ومحط ثقة الناس وحبهم, لم يكن سهلا علي اي مرشح من الاخوان المسلمين ان ينجح في دائرته. ماذا يستطيع اي منافس ان يقدمه امام هذا الرجل المتدين المحترم المعطاء ؟ لقد كان يتكفل بمصاريف زواج الفتيات والشباب من عمال وموظفي مصانعه وشركاته ويوفر لهم رعاية صحية واجتماعية كاملة غير الخدمات التعليمية والمنح الدراسية ورحلات العمرة لقد خلق بالتكافل والصدق دولة كاملة كان هو رئيسها وكان شعبها يحبه, لذا فشلت اي محاولات تخريبية للاخوان في مصانعه او اماكن نشاطه. هذا الرجل قدوة عظيمة ونموذج مشرف, يكفي انه رجل الصناعة الوحيد الذي لم يقم عماله بأي احتجاجات او اضرابات ضده, لا قبل ولا في أثناء ولا بعد الثورة! المفاتيح اخيرا يقول المؤلف في نهاية كتابه البالغ559 صفحة: لقد تعلمت من سيرة الحبيب محمد الا اترك واحدا لديه قيمة حقيقية نافعة الا وتعلمتها منه وعملت بها بقدر استطاعتي لذا ارجو لكل شاب يبحث عن مكان له علي خريطة النجاح ان يستفيد من تجربتي تعلمت الا اسيء لمن احسن يوما لي.. تعلمت ان انزل الناس منازلهم ولا اتجاوز حدود الذوق واحترم المسئولين ولا انافقهم مهما تعاظم نفوذهم ومهما كان لي عندهم من مصالح اتقان العمل والصدق مع النفس والثقة والترابط العائلي وتوقير الكبير اهم مفاتيح النجاح والشراكة مع الله تدفعك الي خوض الصعاب دون ان تشعر بنفس الارهاق الذي يشعر به الاخرون ....................................... [email protected]