كان التخوف دائما أن يستيقظ العالم العربى على حرب عالمية تنطلق شرارتها من سوريا. ما بدا واضحا اليوم هو أن الحرب الأهلية هناك تحولت بالفعل إلى حرب كبرى. اقتصرت الحرب، منذ اندلاعها قبل خمسة أعوام، على اللاعبين الإقليميين الأساسيين الذين دعموا منذ اليوم الأول المعارضة أو نظام الرئيس بشار الأسد. لكنها اتخذت طابعا دوليا فى اليوم الذى قرر فيه الغرب فرض عقوبات اقتصادية موسعة على روسيا كرد فعل على دورها فى ضم شبه جزيرة القرم إلى أراضيها، وفكرة زعزعة استقرار الحكومة الأوكرانية التى يبدو أنها تروق لموسكو. كان النظام السورى وقتها يترنح على وقع ضربات يومية قاسية من فصائل المعارضة بعدما انسحبت الولاياتالمتحدة من عملية عسكرية وشيكة كادت لتطيح به بعد اتهام مسئولين سوريين فى أغسطس 2013 بالوقوف خلف هجوم واسع بالأسلحة الكيماوية فى غوطة دمشقالشرقية راح ضحيته أكثر من ألف قتيل. تراجعت الولاياتالمتحدة لا لأن النظام قرر التخلى عن ترسانة كيماوية ضخمة، بل لأنها أدركت تحت ضغط الروس أن رحيل الأسد من دون استراتيجية واضحة لترتيب الأوضاع فى سوريا ما بعد الأسد سيكون مكلفا للغاية. اليوم صارت فصائل المعارضة هى من يترنح تحت قصف روسى عنيف وتقدم سريع لقوات النظام السورى فى حلب وعلى الحدود الشمالية مع تركيا. كان الكلام وقت انعقاد مؤتمر جنيف1 يدور حول وقف إطلاق النار من أجل انقاذ ما تبقى من مؤسسات الدولة السورية. صار الكلام الآن عن ضرورة وقف إطلاق النار من أجل إنقاذ المعارضة. فى مواجهة حالة اللاموقف واللاقرار الأمريكية، أقدمت روسيا على لعب نفس الدور الذى قامت به الولاياتالمتحدة ومعها حلف الناتو فى صربيا فى تسعينيات القرن الماضي. كان للولايات المتحدة الكلمة الفصل حينها فى إنهاء الصراع الذى استمر لسنوات وأسفر عن آلاف القتلى وأكثر من مليون نازح من البوسنة. أجبرت واشنطن وحلفاؤها الغربيون العالم على تقبل هذا الدور بعد تدخلها العسكرى الحاسم مطلع عام 1999 الذى وضع حدا للصراع وأوقف موجات اللجوء التى كانت وقتها تهدد دول الاتحاد الأوروبى على غرار حرب البوسنة التى تدخلت الولاياتالمتحدة لإنهائها أيضا قبل ذلك بثلاث سنوات عبر اتفاق دايتون. يجد العالم اليوم أن روسيا هى من يفرض الشروط على الجميع فى سوريا. أراد الرئيس الروسى فلاديمير بوتين أن يظهر للغرب أنه أيضا مازال يحتفظ ببعض أوراق الضغط. كان التدخل العسكرى الروسى الواسع فى سوريا فى سبتمبر الماضى نقطة تحول فى الصراع ساعدت النظام السورى على العودة للوقوف على قدميه مرة أخرى، وأسهمت فى قلب موازين الحرب لصالحه. لاحقا، أصبح تلقين الرئيس التركى رجب طيب أردوغان درسا قاسيا من بين أهداف العملية الروسية، بعدما أمر بإسقاط طائرة حربية روسية اخترقت المجال الجوى التركى فى نوفمبر الماضي. لكن الدرس الأهم الذى تعلمه الروس هو أن تدخل الولاياتالمتحدة فى حروب البلقان خلال التسعينيات كان نقطة التحول التى سبقت تمدد النفوذ الغربى فى الجمهوريات السوفيتية السابقة كالنار فى الهشيم. يكرر الروس فى حلب السورية وريفها اليوم دروسا تاريخية تركت ندوبا فى مناطق نفوذهم التقليدية لن تمحى بسهولة. على عكس ما كان متوقعا من لجوء بوتين للتفاوض مع الغرب من أجل رفع العقوبات عن بلاده، صار يضغط على الاتحاد الأوروبى عبر إجبار آلاف السوريين على الفرار من حلب إلى الحدود التركية، ومن ثم إلى أوروبا. أراد بوتين وضع الأوروبيين أمام خيار واضح: إما القبول باستمرار الأسد ولو لفترة انتقالية، أو الاستعداد للتخلى عن مكتسبات جوهرية يقوم على أساسها الاتحاد الأوروبى برمته، فى مقدمتها إتفاق حرية الحركة بين بلدانه. على أجندة صناع السياسة فى موسكو، هذا العام هو عام الحسم فى المعركة بين أوروبا وروسيا التى تعانى تحت وطأة انخفاض أسعار النفط وقرب مواعيد استحقاق سداد ديونها المتراكمة، إما أن تغرق موسكو فى أزمات مالية طاحنة بالتوازى مع انهيار قيمة الروبل، أو يتفكك التماسك الفولاذى للاتحاد الأوروبى تحت وطأة الموجات المتتابعة من اللاجئين. كانت الولاياتالمتحدة تقطف ثمارا ناضجة حينما قررت أخذ زمام المبادرة فى كوسوفو والتوغل فى خاصرة الاتحاد السوفيتى المنهار. يبحث بوتين اليوم عن إعادة الكرّة مرة أخرى على الاتحاد الأوروبى إنطلاقا من جنوبه عند تركيا. قال لى دبلوماسى بريطانى سابق عمل فى واشنطن ويعرف خباياها جيدا إن الأتراك لم يفهموا أن الأمريكيين سئموا من إلحاحهم المتكرر بضرورة غلق الحدود التركية ومنع الجهاديين من عبورها إلى داخل سوريا من أجل الانضمام إلى صفوف داعش. وقال الدبلوماسى السابق أيضا إن الأمريكيين لا يريدون الإعلان عن خططهم بغلق الحدود من الجانب السورى عبر الفصائل الكردية التى تحظى بدعمهم، طالما أن الأتراك ليسوا مستعدين للانصياع. فى حرب كوسوفو كانت روسيا داعمة لفصيل بينما هيمنت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها على المشهد بأكمله. فى سوريا تدعم الولاياتالمتحدة فصيلا، بينما يهيمن بوتين على الحرب بأسرها. سيظل تبادل الأدوار عملية لا غنى عنها فى العلاقات بين الجانبين، لكن صراع المصالح هو من سيكتب النهاية فى سوريا. لمزيد من مقالات أحمد أبودوح