الحرية: ضد العبودية.. ومعناها: الإباحة التي تمكن الإنسان من الفعل المعبر عن إرادته في أي ميدان من الميادين, ومن المأثورات الإسلامية كلمات عمر بن الخطاب رضي الله عنه : متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.. وهي كلمات خلت في مقدمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, الصادر عن الأممالمتحدة سنة 1949م.. ولقد كان مبحث الحرية والاختيار أول المباحث التي بدأت بها الفلسفة الإسلامية, في القرن الهجري الأول, ودعت ملابسات هذه المنشأة علي ارتباط الحرية بالمسئولية في النظرة الإسلامية, لأن القضية التي ولدت البحث في هذه القضية كانت هي التغيرات التي أحدثتها الدولة الأموية في فلسفة الحكم.. فثار السؤال: هل القائمون بهذه التغييرات مسئولون عنها, يحاسبون عليها, ومن ثم فهم أحرار مختارون؟.. أم أنهم مسيرون ومجبرون؟.. فنشأ مبحث الحرية, الذي عبر عنه بالقدر في بعض الأحايين. وإذا كان التكليف الذي هو عنوان المسئولية في القانون هو فرع عن الحرية, فلقد تجاوزت الحرية في النظرة الاسلامية نطاق الفرد الي النطاق الاجتماعي للأمم والجماعات, ففي التكاليف الإسلامية فروض عينية علي الفرد, تستلزم حريته كفرد.. و فروض اجتماعية كغائية تجب علي الأمة, وتستلزم حرية الأمة وتحررها.. بل لقد جعل الإسلام الفروض الاجتماعية أشد توكيدا من الفردوية, لأن تخلف الفروض الفردية يقع إثمه علي الفرد وحده, بينما تخلف الفرض الاجتماعي يقع إثمه علي الأمة جمعاء.. فالتخلف عن الصلاة إثمه علي الفرد التارك للصلاة.. بينما غيبة العدل أو حرية الأمة يقع إثمها علي الأمة جمعاء. والحرية في النظرة الاسلامية ضرورة من الضرورات الانسانية, وفريضة إلهية, وتكليف شرعي واجب, وليست كما هو الحال في الرؤية الغربية مجرد حق من الحقوق, يجوز لصاحبها أن يتنازل عنها إن هو أراد! ومقام الحرية في الاسلام يساوي مقام الحياة, التي هي نقطة البدء والمنتهي بالنسبة للانسان.. ولذلك اعتبر الاسلام الرق والعبودية.. والاستعباد بمثابة الموت, واعتبر الحرية إحياء وحياة.. ولقد لمس الفكر الاسلامي هذا المعني وهذا المقام للحرية قبل قرون من عصرنا الحديث, فقرأنا في تفسير الإمام النسفي (710ه 1310م) لقول الله سبحانه وتعالي. (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) النساء: 92: إن القاتل لما أخرج نفسا من جملة الأحياء, لزمه أم يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار, لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها, لأن الرق موت والحرية حياة. وإذا كان هذا هو مقام الحرية في النظرة الإسلامية, فإن هذه النظرة قد ربطت قيمة الحرية بالانسان مطلق الإنسان وليس بالإنسان المسلم وحده.. فالتكريم في الإنسان هو لمطلق بني آدم (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا) الإسراء: 70.. وإذا كان الدين والتدين هو أعلي وأول مايميز الإنسان, فإن تقرير الإسلام لحرية الضمير في الاعتقاد الديني لشاهد علي تقديس حرية الإنسان في كل الميادين, فهو حر حتي في أن يكفر, إذا كان هذا الكفر هو خيره واختياره الذي لا يؤذي به حرية الآخرين ولا يهدم بالدعوة إليه رسالة المجتمع في الحفاظ علي مقوم الإيمان.. ولقد جاء النهي عن الإكراه في الدين بالقرآن الكريم عقب آية الكرسي, التي أشارت الي عظمة الله وجبروته سبع عشرة مرة!!, ليقول السياق القرآني (لا إكراه في الدين) البقرة: 256 حتي مع هذه العظمة والجبروت لشارع هذا الدين!.. كما جاء بالقرآن الكريم: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا, أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين) يونس: 99 .. وعشرات من الآيات التي تقرر الحرية في هذا الميدان المهم. لقد أراد الله للناس الهدي والإيمان, لكنه جعل لهم, مع هذه الإرادة الإلهية, الحرية والتخيير والتمكين.. ولقد ميز القرآن بين لونين من القضاء الإلهي: قضاء حتمي( فقضاهن سبع سموات) فصلت: 12 وقضاء مع حرية واختيار وتمكين: وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه الاسراء: 23 ليؤكد امتياز الإنسان وتميزه عن سائر الخلق بالحرية والاختيار والتمكين.. وإذا كانت شهادة التوحيد لا إله إلا الله هي جوهر التدين بالاسلام, فإنها تعني تحرير الإنسان بكل ملكاته من كل الطواغيت, فإفراد الله بالعبادة هو تحريره من العبودية لغير الله, ولذلك كان الكفر بالطاغوت هو الوجه الآخر للعملة الواحدة, التي يمثل وجهها الثاني في الايمان بالله (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقي لا انفصام لها) البقرة:. 256 بل إن محاربة الاسلام لشهوات الطمع, وتهذيبه لغرائز التملك, إما تحرر الإنسان من عبوديته للأشياء, فالاستغناء عما في أيدي الناس هو الغني الحقيقي الذي يحرر صاحبه من العبودية لما في أيدي الناس!. ولقد سن الاسلام للمؤمنين به مذهبا متميزا في نطاق الحرية الإنسانية وآفاقها وحدودها.. فالانسان خليفة لله في عمارة الوجود, ومن ثم فإن حريته هي حرية الخليفة, وليس حرية سير هذا الوجود.. إنه حر, في حدود إمكاناته المخلوقة له والتي لم يخلقها هو! .. هو حر في إطار الملابسات والعوامل الموضوعية الخارجية التي ليست من صنعه, والتي قد يستعصي بعضها علي تعديله وتحويره وتغيره!.. هو حر في إطار أشواقه ورغباته التي قد لا تكون دائما وأبدأ ثمرات حرة وخالصة لحريته وإرادته الخالصة, وإنما قد تكون أحيانا ثمرات لمحيط لم يصنعه, ولموروث ماكان له إلا أن يتلقاه!.. ثم إن هذا الانسان الخليفة عن سيد الكون, هو حر في إطار ونطاق ثوابت الشريعة الإلهية, التي هي عقد وعهد الاستخلاف والتوكيل!.. إنه بعبارة الامام محمد عبده : عبد لله وحده, وسيد لكل شيء بعده! .. ولذلك كانت حقوق هذا الانسان الخليفة محكومة بحقوق الله, الذي خلقه, وسخر له مافي هذا الكون, ليقوم بشرف الخلافة عن الله.. أما الحرية المنفلتة من ضوابط الاستخلاف, فلقد وصفها عبد الله النديم بأنها حرية بهيمية, لأن الحرية الحقيقية هي معرفة الحقوق, والوقوف عند الحدود!.. إن الحرية هي الحياة, وللحفاظ عليها وعلي الحياة منظومة من القواعد والآداب التي شرعها واهب الحرية والحياة. المزيد من مقالات د. محمد عمارة