منذ نصف قرن ويزيدكنت محررا علميا بجريدة الأخبار، ومشرفا على تحرير باب يحمل اسم »أخبار العلم« وكان من النادر أن يشرف على تحرير ركن ثابت يظهر فى الجريدة صباح كل ثلاثاء.. ويحرره صحفى صغير لم يتجاوز من العمر 25 عاما. وكان ذلك بتشجيع التوءمين الصحفيين النادرين مصطفى وعلى أمين، وكان يحرره الراحل صلاح جلال قبل رحيله إلى »الأهرام«. وفى أحد الأيام استدعانى صلاح جلال، وطلب منى أن أقدم استقالتى من الأخبار لألتحق محررا بالأهرام فى القسم العلمى الجديد، الذى طلب هيكل إنشاءه ليكون أول قسم معنى بنشر الثقافة العلمية فى الصحافة المصرية والعربية، كنت مترددا فى مغادرة دار أخبار اليوم إلى الأهرام، لأنى ببساطة سوف أترك رئاستى لباب علمى ثابت فى جريدة لها ثقلها، إلى الأهرام مرءوسا، ولكن أستاذى ومعلمى صلاح جلال لا أرفض له طلبا. قدمت استقالتي، ودخلت الأهرام وجلست على مكتبى وتم تعيينى فى نفس اليوم فى المبنى العتيق بباب اللوق. كانت فرائصى ترتعش وأنا أخطو داخل المكان، لأن طقوس العمل فى الأهرام تختلف تماما عن الأخبار فى طريقة تناول الخبر، والمهنية، والصدق المدعم بالوثائق، لأن هيكل تربى فى مدرسة أخبار اليوم، ويعشق الخبر الصحفي، ويعتبر «الانفراد» من أهم سمات الصحفى الناجح، وأن الخبر هو «فاكهة» العمل الصحفي، والملك المتوج على رأس فنون العمل فى الجريدة. وهنا لى مع الأستاذ ثلاثة مواقف مهمة تخص العمل الصحفى وعشقه بالانفراد الصحفي.. أول هذه المواقف عندما كلفنى بمتابعة أخبار وزارة الصحة.. لأن الزميل الصحفى الأستاذ حامد عبد العزيز المكلف بمتابعة أخبار الوزارة مريض (والد الفنانة لبنى عبد العزيز)، ذهبت إلى الوزارة لمتابعة أخبارها، وفى إحدى الليالى عقب حضورى مشاهدة فيلم فى سينما راديو، خرجت فى منتصف الليل عازما الاتجاه إلى منزلى فى منشية البكري، جاءنى هاجس بأن أذهب إلى وزارة الصحة.. فخرجت من السينما إلى الوزارة فى شارع مجلس الوزراء، ولفت نظرى أن مكتب الوزير مضاء فى الدور الثاني، دخلت الوزارة وأنا مفعم بالحصول على خبر مهم، وعند صعودى أول الدرج قابلت د. مالك النمرسي، مدير عام إدارة الاحصاء بالوزارة، والسيجارة فى فمه، ورمادها يسقط على الأوراق التى يتابعها وهو يصعد الدرج فى طريقه إلى الوزير د. عبده سلام. سألت د. مالك.. مالك يا دكتور مالك؟ أجابنى قائلا أسكت لأننا فى مصيبة! قلت له خير.. وعيونى على الورق الذى يقرأه وكانت عبارة عن جداول بها أسماء المحافظات.. قال لى .. »الكوليرا« منتشرة فى المحافظات وطالع للوزير لابلاغه بأرقام الاصابات.. اختلست نظرة على أرقام الاصابات (13 ألف اصابة)، وأسماء المحافظات، وعدت أدراجى إلى المنزل دون أن يدرى أحد، وفى صباح اليوم التالى قدمت الخبر كاملا إلى الأستاذ هيكل من خلال سكرتيرته الأستاذة نوال المحلاوي، وبعد خمس دقائق طلبنى الأستاذ هيكل وهو مذعور وقال لى بحدة.. هل أنت متأكد من هذا الخبر؟.. أجبته نعم متأكد تماما، سألنى كيف حصلت عليه؟.. حكيت له الحكاية فسألنى لماذا لم تقابل الوزير وهو صديقك؟ قلت له.. سوف يأخذ على عهدا بأن لا أنشر الخبر!.. وبعد ساعتين استدعانى لمكتبه مرة ثانية وكنت خائفا رغم ثقتى من صحة الخبر.. وكانت المفاجأة.. لقد قرر الأستاذ هيكل صرف مكافأة قدرها خمسون جنيها وتصرف من الخزينة فورا.. هذه المكافأة كانت ضعف مرتبي! أما الموقف الثانى عندما كنت مندوبا للأهرام لتغطية أخبار مستشفى القوات المسلحة بالمعادي.. باعتباره المستشفى المتفرد فى مصر والمنطقة العربية بالتجهيزات، وكان قادة الدول العربية يلجأون إلى المستشفى للعلاج بالاضافة إلى المشاهير.. وفى أحد الأيام أثناء متابعتى لأخبار المستشفى وأهم زوارها علمت أن الفريق عبد الغنى الجمسى دخل المستشفى سرا فى الحجرة 601 بالدور السادس، مصابا بكدمات وجروح لسقوطه فى الحمام، كتبت الخبر وسلمته إلى مكتب الأستاذ، وطلبنى وسألنى بطريقته المعهودة »يا أستاذ أنت متأكد من هذا الخبر«؟.. قلت نعم.. ومرت عشر دقائق واستدعانى فى مكتبه وأمر بصرف 50 جنيها تسلمتها من سكرتيرته عبارة عن ورقة فى حجم طابع البريد مكتوب »يصرف له خمسون جنيها هيكل«.. الموقف الثالث بعد نجاح هبوط رجل الفضاء الأمريكى نيل أرمسترونج على سطح القمر وكان ذلك فى 16 يوليو عام 1968 والحوار الذى دار بينه وهو فوق القمر مع الرئيس الأمريكى وقائمة الطعام للرجال الثلاثة فى رحلتهم وعودتهم بالسفينة أبوللو إلى مياه المحيط الهادىء بالباراشوت وهى الرحلة التى أثمرت عن نتائج مبهرة لعل من أهمها التليفون، المحمول، ونجنى ثمارها من ستينيات القرن الماضى حتى الآن.. قابلنى الأستاذ هيكل.. وقال لى باللغة الانجليزية »عمل جيد جدا« وصرف لى مكافأة قدرها 100 جنيه! كنت من الصحفيين المحظوظين الذين عملوا خلف وبجانب الأستاذ هيكل خرجنا من مدرسة الأخبار إلى مدرسة الأهرام وهم الأساتذة صلاح هلال، وصلاح جلال، وصلاح منتصر، وسناء البيسي، ومحمد يوسف كبير مصورى الأهرام وزميله محمد لطفي، وعبده مباشر وأنا واندمجنا مع باقى الزملاء. وعندما تدخل مكتبه لا تجده مكدسا بالأوراق، نظيفا تماما من أى ملفات، أو أوراق، يكتب كمحلل للأحداث أديبا مؤرخا فنانا صاحب حكمة ورؤية عريضة.. عندما يرأس مجلس تحرير الجريدة.. وكان يرى »الجمال هو النظام«. واضح وعميق.. تبوأ مكانته بجدارة.. فاستحق كل هذا التكريم. لمزيد من مقالات وجدى رياض