فى يوم حزين من شهر فبراير عام 1974 خرج الاستاذ محمد حسنين هيكل من "الاهرام"، وفى يوم أشد حزنا من شهر فبراير عام 2016 خرج الاستاذ هيكل من هذه الدنيا، وما بين التاريخين كان الإنجاز الأكبر لهيكل حين انطلق من موقع رئيس التحرير الى آفاق الكاتب العالمى الذى تتسابق دور النشر لطباعة أعماله والذى تترجم مؤلفاته الى مختلف لغات العالم. كان الاستاذ هيكل يمثل ظاهرة غير عادية على جميع المستويات الصحفية والفكرية والإنسانية، وكان بالنسبة لنا فى "الاهرام" الصرح الثابت والراسخ ثبوت ورسوخ الأهرامات التى تستمد منها الجريدة اسمها، لذلك كان وقع خبر خروجه من "الاهرام" فى ذلك اليوم البارد من شهر فبراير 1974 كالزلزال المدمر. كان أول ما شاهدته فى ذلك اليوم عند وصولى الى مبنى "الاهرام" بشارع الجلاء هو تلك القافلة من السعاة وهم ينزلون صناديق الكرتون من مكتب رئيس التحرير بالدور الرابع والتى كانت تحمل كتبه وأوراقه ومتعلقاته الشخصية، وحين وصلت الى صالة التحرير وجدت المرحومة جاكلين خورى تبكى بصوت عال وزميلها حسنى جندى يحاول مواساتها، بينما ارتسمت علامات التأثر بشكل واضح على أوجه بقية المحررين. قال لى أحمد عادل كبير محررى القسم الخارجى: تعال معنا سنذهب الى مكتب الأستاذ هيكل لنودعه. تسمرت فى مكانى دون حراك، فجذبنى من يدى لأنساق مع بقية الزملاء عبر الممر المؤدى الى مكتب رئيس التحرير، لكنى عند الوصول الى باب المكتب توقفت وتركتهم يدخلون وحدهم، بينما استدرت عائدا من حيث اتيت. لم اجد فى نفسى القدرة على مشاهدة الأستاذ هيكل وهو يخرج من ذلك المكان الذى منحه من وقته وجهده وفكره ما لا يقوى عليه أحد. كان الأستاذ هيكل يأتى الى مكتبه فى الثامنة صباحا ليرأس فى التاسعة أول اجتماعات التحرير اليومية الثلاثة فى قاعة مجلس التحرير، وكان هذا الاجتماع مخصصا لاستعراض الأحداث المتوقعة فى ذلك اليوم وتوزيع التكليفات، وفى الثانية تماماً كان الأستاذ هيكل يحضر الى صالة التحرير ليرأس الاجتماع الثانى لتحديد معالم الجريدة فى ضوء أحداث اليوم، ثم يعود الى منزله لتناول الغداء والاستراحة قليلا، قبل ان يعود الى صالة التحرير مرة أخرى ليرأس الاجتماع الثالث فى تمام الخامسة والذى كان مخصصا للصفحة الأولى. ومن بعد ذلك وحتى صدور الطبعة الأولى قبل منتصف الليل كان الاستاذ هيكل يظل على اتصال تليفونى بالديسك المركزى ورئيسه المسئول، مع إمكانية إيقاظه بعد ذلك فى اى ساعة من ساعات الليل اذا كان هناك من الأحداث ما يستوجب ذلك أثناء إعداد الطبعة الثانية أو الثالثة والتى كانت تتم فى حوالى الثالثة صباحا. فى ذلك اليوم البارد من شهر فبراير كان على الأستاذ هيكل أن يترك كل ذلك وراءه ويخرج من "الاهرام" الى منزله. لم تكن القضية هى الساعات التى تعود أن يقضيها فى الجريدة طوال ال17 عاما الأخيرة، وإنما الجهد المهنى والنفسى والعاطفى الذى كان يربطه بذلك المبنى الذى شيده بنفسه وأشرف على بنائه طوبة فوق طوبة الى أن دعا جمال عبد الناصر لافتتاحه عام 1968، والتعرف على العاملين فيه من محررين وكتاب وموظفين وعمال، لكن اهم ما كان يربطه بهذا المبنى كان العلاقة بينه وبين العاملين داخل هذا الصرح الكبير، فقد كان الأستاذ هيكل يعرف العاملين فى "الأهرام" فردا فردا، وفى أحد المرات تصادف أن كنت معه بالمصعد واندهشت وانا أسمعه يسأل عامل المصعد الذى لم اكن أعرف اسمه، عن حالة ابنته الصغيرة التى كانت قد أصيبت بالإنفلونزا قبل أيام. لكن اليوم وسط البرد القارص لليوم الأول من شهر فبراير عام 1974 كان عليه أن يتخلى عن دفء العلاقة التى جمعته بالعاملين فى "الاهرام" والذين اختارهم بنفسه على مدى السنوات واحدا واحدا، وتعايش معهم وتعايشوا معه طوال 17 عاما. كان محمد حسنين هيكل قد دخل "الأهرام" لأول مرة يوم 31 أغسطس عام 1957، وما بين اليوم الأخير من أغسطس 1957 واليوم الأول من فبراير 1974 صنع هيكل من "الأهرام" واحدة من أهم قلاع الصحافة فى العالم وأصبحت مراكز الدراسات الصحفية تعده واحدا من أهم 10 صحف عالمية. كان "الأهرام" قد وصل فى عام 1957 الى حالة من الشيخوخة جعلت قراءه يتناقصون تدريجيا، حتى لم يعودوا يتعدون 68 ألفا، كما كان يعانى من عجز فى ميزانيته وصل الى ما يزيد على مليون ونصف المليون من الجنيهات، وبدأت عائلة تقلا المالكة للجريدة تبحث عن رئيس تحرير جديد، يستطيع ان ينهض بالجريدة التى شارفت على الإفلاس المالى والصحفى فى نفس الوقت. وقد روى لى المحامى الكبير سعد فخرى عبد النور أنه نصح عائلة تقلا، وقد كان هو محاميها، بتعيين ذلك الصحفى الشاب اللامع محمد حسنين هيكل رئيسا للتحرير، قائلا إنه هو القادر على انتشال الجريدة من الوضع المتدهور الذى يزداد سوءا يوما بعد يوم، وأن يحقق لها النجاحات الصحفية التى حققها لمجلة "آخر ساعة" أثناء رئاسته لتحريرها، ثم أنه "يملك أذن البكباشى"، وكان يقصد بذلك جمال عبد الناصر الذى كانت زعامته قد ترسخت بعد حرب السويس، وصار هو الرجل القوى المتحكم فى مصيرالشرق الأوسط كله، وليس مصر وحدها، وقد أعاد على سعد (بك) مقولته بالفرنسية كما قالها آنذاك لأسرة تقلا ذات الأصول الشامية اللبنانية، فقال وهو يمسك بأذنه: Il a l'oreille du colonel. واقتنع مالكو الجريدة بذلك وعرضوا بالفعل على هيكل رئاسة تحرير "الأهرام" لكنه رفض. ثم عاد المرحوم على الشمسى بعد بضعة أشهر فنجح فى إقناع هيكل بالقبول، فقد كان الشمسى (باشا) تربطه علاقة وثيقة بآل تقلا كما كان هيكل يكن له تقديرا واحتراما كبيرين. وخلال فترة رئاسته استطاع هيكل ان يرتفع بتوزيع "الأهرام" ليتعدى المليون نسخة، وان يعظم موارد المؤسسة من الإعلانات، ليشيد ذلك المبنى الجديد الذى تكلف الملايين وكان عند افتتاحه عام 1968 أكثر المبانى الصحفية حداثة فى العالم بعد مبنى جريدة "أساهى" فى اليابان الذى كان على سطحه مهبط للطائرات الهليكوبتر المملوكة للجريدة. كما استطاع هيكل ان يربط "الاهرام" بشبكة علاقاته الدولية التى سمحت له أن يدعو الى "الاهرام" الجنرال مونتجمرى بطل الحرب العالمية الثانية، وجان بول سارتر فيلسوف الوجودية الأكبر، وسيمون دى بوفوار كاتبة تحرر المرأة، وفرانسوا ميتران رئيس الحزب الاشتراكى الفرنسى ورئيس الجمهورية فيما بعد، وغيرهم. لم يكن على أن أذهب الى الجريدة صباح ذلك اليوم البارد من شهر فبراير، فقد كانت ورديتى بالقسم الخارجى الذى كنت أعمل به فى المساء، لكن كان على أن أتمم بعض الأمور الإدارية الخاصة بسفر للخارج كنت اعد له. وكأن الأقدار شاءت ان أكون موجودا بالجريدة لأحضر ذلك المشهد القاسى لرب المؤسسة وهو يخرج منها بغير رجعة، لا لخطأ ارتكبه أو لتقصير فى عمله، بل لخلاف فى الرأى بينه وبين رئيس الدولة، حول طريقة استثمار النتائج السياسية للانتصار الهائل الذى حققته القوات المسلحة المصرية قبل ذلك بأربعة أشهر فى حرب أكتوبر المجيدة. لا لن أحضر هذا المشهد الحزين. لن أشاهد بطل الرواية وهو يخرج من المسرح الذى ملأه طولا وعرضا طوال 17 عاما. لن أشاهد محمد حسنين هيكل الذى اقترن اسمه ب "الاهرام" واقترن اسم "الاهرام" به وهو يخرج منه كما خرج العرب من فلسطين بعد النكبه. كنت منحازا انحيازا كاملا لرأى هيكل ورفضه لطريقة ادارة الصراع السياسى بعد الحرب، وكنت أضع نفسى فى موقع المعارضة لنظام الرئيس السادات الذى كنت أرى فى سياساته تراجعا مستمرا عن كل ما تحقق فى سنوات الخمسينيات والستينيات، من القومية العربية وعدم الانحياز الى العدالة الاجتماعية وتحديث المجتمع، وهو ما كان قد أدى بى قبل ذلك بحوالى سنة الى الفصل من عملى بالجريدة. كان ذلك فى مارس 1973 حين وجدت نفسى مع عشرات من الصحفيين والكتاب منقولا بقرار من الرئيس السادات بوصفه رئيسا للاتحاد الاشتراكى العربى الى هيئة الاستعلامات، فذهبت مع بعض الزملاء الصحفيين المفصولين الى مكتب رئيس الهيئة، بمكتبه بشارع طلعت حرب. وما ان علم الأستاذ هيكل بذلك حتى استدعانى الى مكتبه وسألنى فى استنكار: هل صحيح انك سلمت نفسك للاستعلامات؟ قلت: ألم يكن هذا هو ما تضمنه القرار؟ فقال لى هيكل ما لم اكن اتوقعه. قال: ومن قال لك ان تقبل بتنفيذ القرار؟ فدهشت ولم أجد ما أجيب به. واستمر الاستاذ هيكل فى حديثه ففتح أمامى طريقا جديدا لم اكن اعلم بوجوده. الطريق الذى يسمح لى وانا المحرر الشاب أن أعمل ارادتى الحرة ولا أنصاع لما لا أقبله. قال لى: ليتضمن القرار ما يتضمنه، لكنك انت وحدك صاحب التنفيذ. ان القرار هو قرارك وحدك. لم أرد. قال: لقد حولت نفسك طواعية من صحفى الى موظف حكومى. دارت بى الدنيا. لم اكن قد استقلت من عملى بالجامعة كى أتحول فى النهاية الى موظف حكومى. كنت معيدا بقسم اللغة الانجليزية وآدابها بكلية الآداب، حين قابلت الأستاذ هيكل لأول مرة فعرض على ان انضم الى القسم الخارجى ب "الاهرام". وكانت له وجهة نظر فى هذا القسم جديرة بأن نعرضها، حيث كان يرى ان القسم الخارجى يجب ان يضم كل التخصصات واللغات حتى يستطيع ان يتعامل مع جميع انواع الأخبار الواردة من الخارج، سواء كانت سياسية أو ثقافية أو اقتصادية أو فنية، فهذا القسم هو الذى عليه ان يمد الجريدة بخبر عزل خروشوف، كما يمدها بخبر انتحار مارلين مونرو، لذلك يجب أن تكون لدى أعضائه القدرة على التعامل مع جميع انواع الأخبار، وإضافة الخلفية المطلوبة للخبر الذى قد يجيء مختصرا أو غير مفهوم للقاريء العربى. وكان هيكل يعتبر هذا القسم بديلا عن جيش المراسلين الأجانب الذى يمكن ان يكلف الجريدة اموالا طائلة، وقد ينتهى الأمر بالمراسل بعد سنوات فى الخارج ان يفقد صلته باهتمامات القارئ العربى ويرسل للجريدة مواد لا تختلف كثيرا عما تبعث به وكالات الأنباء الأجنبية. وهكذا كان "الاهرام" يحتفظ ببعض المراسلين فى المواقع الدائمة الاهتمام مثل الأممالمتحدة ولندن وباريس وموسكو، لكنه كان يحتفظ فى القسم الخارجى بقوة ضاربة من المحررين المتخصصين فى مختلف الشئون السياسية والذين كان يبعث بهم الى موقع الأحداث كلما استدعت الضرورة، وكان هيكل بنفسه هو الذى يختار المحرر الذى يوفد فى مهمة صحفية للخارج. كان هذا هو ما دفعنى وانا لم اكمل بعد عامى الأول ب"الاهرام" ان أدخل على الأستاذ هيكل مكتبه الذى كان دائما مفتوحا رغم مشاغله أمام أى محرر يطلب مقابلته، لاطلب منه أن يرسلنى الى نيويورك أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة فى خريف عام 1971، فسألنى هيكل: انت تعرف الأممالمتحدة؟ زرتها قبل كدة؟ قلت : لا. فقال لى على الفور: تبقى عايز تروح تلعب. وقبل أن أرد عليه واصل حديثه: أولا لدينا فى نيويورك مراسل الأهرام الدائم ليفون كشيشيان الذى سيغطى الأحداث اليومية فى الأممالمتحدة، ثانيا سيذهب حمدى فؤاد ليغطى المناقشات الخاصة بقضية الشرق الأوسط، ثالثا سيتابع الدكتور كلوفيس مقصود ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، رابعا طلبت من الاستاذ أحمد بهاء الدين أن يذهب هو الآخر ليتابع هذه الدورة بشكل عام ثم يعود ليكتب فيما يختاره، فقل لى ماذا ستفعل انت أكثر من ذلك؟ تبدى أمامى على الفور التحدى الذى أراد هيكل أن يواجهنى به، وشعرت انه يريد أن يختبر هذا المحرر الشاب الذى توسم فيه خيرا، حين اختاره للانضمام الى "الأهرام"، فقررت ان أكون على مستوى التحدى، وغالبت شعورى بالضآلة أمام الأسماء التى عددها لى والذين كانوا يمثلون أكبر القامات الصحفية فى ذلك الوقت، وأيقنت أننى لو استسلمت لهذا الشعور فقد انهزمت فى اول اختبار لى امام الاستاذ هيكل، أما إذا صمدت فربما كسبت ثقته الى الأبد، فهكذا كان هيكل، يختبر الناس ثم يعاملهم وفق نتائج الاختبار. استجمعت كل قواى وقلت: هناك موضوع هام فى هذه الدورة لم تذكره لى يا أستاذ هيكل. ثم صمت قليلا لأرى ماذا سيقول. قال: أى موضوع؟ قلت: اختيار السكرتير العام الجديد للأمم المتحدة. قال: وماذا تعرف عن هذا الموضوع؟ قلت: أعرف أنه موضوع غاية فى الأهمية بالنسبة لنا فى الشرق الأوسط حيث نتمسك بأن يجيء الحل فى أزمة الصراع العربى الاسرائيلى من خلال الأممالمتحدة، وأعرف أن الصراع محتدم الآن حول اختيار السكرتير العام الجديد بين القوتين العظميين، وأعرف الأسماء المطروحة لخلافة يو ثانت الذى أكد للجميع أنه غير راغب فى الاستمرار فى موقعه، بناء على نصيحة أطبائه، وأعرف خلفيات كل من المرشحين والقوى المؤيدة لكل منهم، وأعتقد أن باستطاعتى ان ابعث للجريدة بما لن يتسع له وقت أى من الأساتذة الكبار الذين ذكرتهم لأننى سأكون متفرغا لهذا الموضوع وحده. صمت هيكل وهو يفكر فيما قلت فأحسست أننى ربما أكون قد كسبت الجولة الأولى. قال: شيء جيد أن يكون لديك ثقة بنفسك، ولكن المهم هو من اين تستمد هذه الثقة؟ قلت: من عزمى على أن أبذل كل جهدى فى متابعة تطورات هذا الموضوع، ومن إدراكى بأن لدى القدرة على ان أفعل ذلك. ثم قلت: اعرف ان تلك هى المرة الاولى التى أسافر فيها فى مهمة صحفية ل "الأهرام"، لكنى أعدك اننى سأنجح فى هذه المهمة. ثم قلت: انا على استعداد ان أسافر على نفقتى الخاصة وعند عودتى اذا أعجبك شغلى يمكن ان يتحمل "الأهرام" نفقات الرحلة. وابتسم هيكل وهو يسألني: أأنت جاد فيما تقول؟ قلت: نعم، وسأقبل بتقييمك بعد ذلك لعملى. فمد لى يده مصافحا وقال: خلاص اتفقنا. ثم أضاف: احتفظ بفواتير لكل نفقاتك حتى نتمكن من تعويضك عنها لدى عودتك. وكان الأستاذ هيكل عند وعده وأكثر، فقد تابعت سباق السكرتير العام فى نيويورك، وتمكنت من اجراء أول حديث لكورت فالدهايم السكرتير العام الجديد بمجرد تسميته، ونقلت كل وكالات الأنباء أهم ما ورد فى الحديث منسوبا ل"الأهرام"، وخرج متحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية يشكك فى الحديث ويهاجم قول فالدهايم ان قرار مجلس الأمن لا ينص على المفاوضات المباشرة التى كانت تطالب بها اسرائيل، وعند عودتى للقاهرة قام "الأهرام" بتعويضى عن كل ما أنفقته فى نيويورك، ثم استقبلنى الأستاذ هيكل وصرف لى مكافأة فاقت كل توقعاتى. تذكرت هذه الواقعة فى ذلك اليوم البارد من شهر فبراير عام 1974 بينما كان المحررون يدخلون الى مكتب الأستاذ هيكل لتوديعه، وبينما كانت قافلة الصناديق الكرتون تنزل من مكتبه الى خارج المبنى. لم يكن هيكل مجرد رئيس تحرير يرعى المحررين ويشجع فيهم روح المنافسة كما يتضح من هذه الواقعة، أو ينمى فيهم الإحساس بالكرامة، ويدفعهم لأن يأخذوا القرار بيدهم كما يتضح من واقعة توجيهه اللوم لى على الانصياع لقرار نقلى الى هيئة الاستعلامات، وإنما كان أيضا رجلا ذا قدرات شخصية فذة، ومازلت حتى الآن غير قادر على تفسير بعض تلك القدرات التى كان يتمتع بها، فإلى جانب ذكائه الخارق كان هيكل يتمتع أيضا بسرعة مذهلة فى التفكير وفى القراءة على حد سواء، فقد كان تفكيره يسبق كلماته، لذلك كان كثيرا لا يكمل جمله لأنه ما أن يبدأ جملة حتى يكون عقله قد قفز الى الفكرة التالية، فيبدأ النطق بها ليسبقها عقله مرة أخرى الى الفكرة التالية، وتلك العادة كثيرا ما جعلت محدثيه يلهثون وراء أفكاره، أما مشاهدو أحاديثه التلفزيونية فمن لم يكن منهم معتادا على طريقة هيكل فى الحديث فقد يتضايق من هذه الجمل غير المكتملة التى يعجز المشاهد العادى عن متابعتها. أما سرعته فى القراءة فقد كانت خارقة، وأذكر أنه أبلغنى ذات مرة بعد اجتماع التاسعة صباحا ان "الأهرام" اشترى مذكرات الرئيس الأميركى السابق ليندون جونسون لتنشر باللغة العربية فى نفس وقت نشرها بالانجليزية فى "النيويورك تايمز"، وقال لى باعتبارى مسئولا عن وردية ذلك اليوم أن نص المذكرات سيتم ارساله للقسم الخارجى خلال ساعات على جهاز "التيكر" الموجود بالقسم، وأوضح هيكل ان "الأهرام" لن ينشر المذكرات كما هى فقد كان جونسون منحازا لإسرائيل أثناء ولايته التى شهدت حرب 1967، لذلك فقد طلب من الأستاذ أحمد بهاء الدين أن يقوم بالتعليق على بعض أجزاء فى المذكرات سيحددها له هيكل كى يرد على بعض ما أورده جونسون من مغالطات. وما هى الا بضع ساعات بالفعل ووصلنى النص الكامل للكتاب على جهاز "التيكر" الخاص بالخدمة الخاصة لل "نيويورك تايمز" التى كان "الأهرام" مشتركا فيها، وحل موعد اجتماع الساعة الثانية فجاء هيكل الى صالة التحرير فسلمته على الفور النص الذى جاءنى فأخذه، وقال سأرده لكم للترجمة مع تحديد الأجزاء التى تحتاج تعليقا من أحمد بهاء الدين. وكما كانت عادته غادر هيكل الجريدة الى منزله للغداء والراحة وعاد فى الخامسة، ليعيد الى النص وقد حدد بقلمه الرصاص الأزرق الذى لم يكن يستخدم غيره، المواضع التى تتطلب تعليقا والتى لم تخل منها الا صفحات قليلة من الكتاب. أخذت اتصفح الأوراق التى سلمها لى هيكل وانا مذهول. كيف استطاع ذلك الرجل ان يقرأ كتابا كاملا وأن يختار بنظرته الفاحصة ما يجب التعليق عليه؟ ومتى تناول غداءه؟ ومتى خلد الى الراحة؟ وكيف تمكن من كل ذلك ما بين الساعة الثانية والنصف، بعد انتهاء الاجتماع والخامسة حين عاد من بيته للاجتماع التالى؟ أسئلة حيرتنى، فصممت على ان أسأله حين واتتنى الفرصة بعد ذلك كيف استطاع قراءة كتاب بأكمله فيما لا يزيد عن ساعتين؟ فزاد من حيرتى حين رد على فى اقتضاب: انا بقرا بسرعة. كان التعامل مع هيكل فيه دائما دروس وعبر، سواء وهو داخل "الاهرام" كما فعل حين نبهنى وقت نقلى الى هيئة الإستعلامات الى ان القرار يجب أن يكون قرارى، او بعد أن خرج من "الأهرام". ففى عام 2006 وبعد سنوات من خروج هيكل من "الاهرام" تحدث الى السفير الأسبانى فى القاهرة طالبا بأن يرشح اتحاد الكتاب كاتبا مصريا كبيرا لجائزة أمير أستورياس (ولى عهد إسبانيا)، وهى أرفع الجوائز الأسبانية ولم يفز بها أى كاتب عربى من قبل، وبعرض الأمر على مجلس الاتحاد أجمعت آراء جميع الأعضاء (30 عضوا) على ترشيح الأستاذ محمد حسنين هيكل فى مجال الاتصالات والعلوم الاجتماعية، فهو من وجهة نظرنا صاحب القلم الرفيع والأسلوب الرشيق الذى جعل من المقال الصحفى مقطوعة ادبية تظهر جمال اللغة العربية وتجسد بلاغة عبارتها. وذهب رأى أعضاء المجلس الى ان سمعة الاستاذ هيكل الدولية ومكانته المعروفة ستكون خير ضمان لأن تذهب الجائزة لأول مرة الى قلم عربى لا خلاف على استحقاقه لها. واتصلت بالاستاذ هيكل فى اليوم التالى ابلغه رسميا بالترشيح، فشكرنى شكرا جما وطلب منى التعبير عن امتنانه لأعضاء المجلس، لكنه اعتذر وطلب منى ان نرشح اسما آخر للجائزة. ولم تفلح محاولاتى المستميتة فى إثنائه عن موقفه، فقلت له إننى أرسلت له خطابا بقرار الاتحاد فليرد عليه وسأعرض الأمر على المجلس. وفى مساء نفس اليوم وصلنى منه الخطاب التالى والذى انشره هنا لأول مرة كوثيقة تعبر عن وجهة نظره فى موضوع الجوائز ككل، وكدرس جديد من دروسه فى استقلالية الصحفى التى كان يحرص عليها كل الحرص: عزيزى الاستاذ محمد سلماوى سعدت كثيرا بخطابك الرقيق الذى أبلغتنى فيه بالأصالة عن نفسك ونيابة عن اتحاد كتاب مصر، بأنكم وافقتم بإجماع على ترشيحى لجائزة أمير أستورياس ولى عهد اسبانيا فى مجال الاتصالات والعلوم السياسية. وبقدر ما سعدت لترشيحكم ممتنا به وفخورا، فإننى أجد عاملا آخر له الغلبة عندى وهو يدعونى أن أكتب إليكم راجيا كرمكم بالتفكير فى مرشح آخر غيرى، ذلك اننى منذ بواكير انتسابى لمهنة الصحافة اقتنعت وأعلنت أننى لست مرشحا لأى وسام أو أى جائزة من أى جهة دولية أو محلية، وكان ذلك الموقف تعبيرا عن تصور اعتقد فيه - خطأ أو صوابا - مؤداه أنه ليس من حقى أن أقبل تكريما من غير قارئى. ومع أننى أعرف أن الجوائز والأوسمة ضمن وسائل المجتمعات لإظهار حفاوتها بشخصية أدت دورا فى الحياة العامة، الا أننى ومن منظور شخصى مباشر، اعتقد جازما بأفضلية ان يظل صحفى فى مثل ظروفى خارج ساحة الأوسمة والجوائز، ولعله يساعدنى على ذلك أن هذه المهنة التى أتشرف بالانتساب اليها وفرت لى من فضل قرائها فى مصر وفى العالم الخارجى ما يكفى ليشعرنى دائما بالاعتزاز والعرفان. إننى أبلغتك رأيى فى محادثتنا التليفونية صباح اليوم، واتبعه الآن بهذه الكلمات بناء على اقتراحك لاستيفاء السجل وتوضيح الأمور. وانت تعلم مدى تقديرى لك صديقا وزميلا ونجما ساطعا من نجوم جيل من كبار الصحفيين، له اخلص دعائى وأصدق أمانى، بظن أن مستقبل المهنة فى يده مع هذه اللحظة الدقيقة من حياة الوطن وهموم الصحافة. ومع أصدق الود، أرجوك قبول موفور الاحترام. محمد حسنين هيكل وأعود الى سياق ذلك اليوم البارد من شهر فبراير عام 1974، لأتذكر انه ما ان بدأت عملى فى وردية المساء حتى أخذت وكالات الأنباء الأجنبية تتناقل خبر خروج هيكل من "الاهرام" باعتباره الخبر الزلزال كما أسمته احدى الصحف الفرنسية، وأظنها كانت "لوموند"، وفى الساعات الأخيرة من اليوم وقبل منتصف الليل وصلتنى برقية على وكالة "رويتر" تحمل النص الكامل لافتتاحية جريدة "التايمز" البريطانية الغراء والتى كانت كلها عن محمد حسنين هيكل الذى وصفته الجريدة وهى اكبر جرائد العالم آنذاك، بأنه ليس فقط واحدا من أهم الصحفيين فى العالم وإنما هو "مؤسسة" institution فى حد ذاته. وتراقصت الكلمات امام عينى اللتين امتلأتا بالدمع، وهزنى التأثر. لقد رفضت فى الصباح ان أشاهد خروج هيكل من "الأهرام" فإذا بالصحف العالمية فى المساء تفرض على ذلك المشهد رغما عنى. كم كنت أود الآن ان أهرع الى مكتب الأستاذ هيكل لأعطيه تلك البرقية، كما كنا نفعل كلما كان هناك خبر ترتج له الارض كالزلزال، على حد وصف الصحيفة الفرنسية، لكنه كان قد خرج فى ذلك اليوم الأول من شهر فبراير البارد عام 1974 من مكتبه ومن "الاهرام" برمته. تمالكت نفسى حتى نهاية الوردية فى الثالثة صباحا، وفى طريق عودتى الى منزلى فى المعادى توقفت عند عمارة مرشاق بجوار فندق شيراتون وصعدت بهدوء فى تلك الساعات الصامتة والنَّاس نيام الى الدور الرابع، ومن تحت باب شقة هيكل أدخلت برقية الافتتاحية التى كانت ستظهر فى "التايمز" فى الصباح. لم تكن هناك فى ذلك الزمان أجهزة "كمبيوتر" تنقل لك مقالات الصحف كما هو الحال الآن، ولم تكن الصحف الأجنبية تصل الى السوق المصرية الا بعد صدورها بيوم أو اثنين، وهكذا سعدت ان كنت اول من أخطر هيكل بأنه موضوع افتتاحية اكبر الصحف العالمية فى ذلك اليوم، بل وأوصلت اليه نص الإفتتاحية التى لم يكن له أن يقرأها إلا بعد أيام. فعلت ذلك فى هدوء وعدت الى منزلى فنمت هنيء البال، وفى الصباح وجدت هيكل يتصل بى ليشكرنى. لم أكن قد تركت له أسمى مع البرقية. قلت له: كيف عرفت؟ فأعطانى درسا جديدا. قال: رئيس التحرير يجب أن يكون على علم بجدول جميع العاملين بالجريدة بحيث يعرف موقع كل محرر اثناء ساعات العمل. وفى نفس ذلك الشهر اللعين من عام 2016 كان الخروج الكبير للاستاذ هيكل من سجن العمر، كما سماه توفيق الحكيم. لم يكن هذا اليوم باردا هذه المرة، بل كان حارا وصلت فيه الحرارة الى 30 درجة مئوية، لكن فاقتها حرارة المشاعر التى جاءت من كل صوب تودع كاتبها الكبير الذى كانت مقالاته فى "الاهرام" سجلا لجيل كامل ممن عايشوا مرحلة المد الثورى العربى بكل احلامه العريضة وتطلعاته الطموحة، كما كانت كتاباته بعد أن خرج من "الاهرام" سجلا لمرحلة الجزر التى أعقبت الثورة.