فى إطار متابعة دوائر الأمن القومى المصري، التى تشمل الدائرة العربية، والدائرة الإفريقية، ودوائرالبحرين الأحمر والمتوسط نتناول اليوم، بشىء من التفصيل، الدائرة التى نراها الأهم، والأخطر على مستقبل الأمن القومى المصري، وهى دائرة حوض نهر النيل تلك الدائرة التى تتحكم فى شريان الحياة لمصر، وهو نهر النيل العظيم،ومكانته الراسخة فى نفوس المصريين، كمصدر وحيد، ليس له بديل، للمياه فى مصر. يضم حوض نهر النيل إحدى عشرة دولة عبر منبعين كبيرين: الأول هو منابع البحيرات الإستوائية العظمى، فى منتصف قارتنا الإفريقية، ويضم ست دول وهى كينيا، وأوغندا، وتنزانيا، ورواندا، وبوروندي، والكونغو الديمقراطية، وهى منبع النيل الأبيض الذى يسهم بنحو 15% من إجمالى مياه نهر النيل،بما يعادل 12 مليار متر مكعب سنوياً، بسبب فقد أضعاف هذا الرقم فى مستنقعات جنوب السودان، التى تصنف بأنها المستنقع الأكبر عالمياً، ولذلك كانت أحد أهم مصادر تنمية موارد النهر عن طريق قناة جونجلى التى بدأها الرئيس السادات، وانتهت بسبب النزاعات الداخلية قبل الاستقلال. المنبع الثاني، وهو الأهم والأغزر مائياً، والأقرب مسافة لمصر،وهو المنبع الشرقى لنهر النيل، الذى يضم إثيوبيا، وعلى استحياء جزءا حدوديا صغيرا لإريتريا يرسمه نهر عطبرة،وهو مصدر لتدفقات 85%من مياه النهر، بما يقترب من 72 مليار متر مكعب سنوياً، عبر أنهار النيل الأزرق (59 64%)، وعطبرة والسوبات (22%)، وبالتالى فهو المؤثر تماماً على حياة المصريين. منذ عام 2007، بدأت إثيوبياالمنبع الأكبر لنهر النيل نشاطا مكثفا لاستقطاب دول منابع نهر النيل ضد مصر، مستغلة اتفاقية 1929، التى تعطى لمصر حق الاعتراض، وحق الإخطار المسبق عند إقامة السدود على أنهار وروافد النيل الأبيض، وحتمية موافقة مصر عليها، مصورة لهذه الدول أن مصر تتحكم فى مقدراتها، ومطالبة بإلغاء هذه الامتيازات المصرية،مدعية أن فى ذلك تحقيق الكثير من الخير لدول المنابع. ونجحت إثيوبيا فى مساعيها، باستقطاب دول منابع النيل الأبيض، والتى أثمرت عن توقيع اتفاقية عنتيبى فى مايو 2010،والتى بموجبها تم إلغاء جميع الاتفاقيات السابقة للنهر،مصورة للعالم أن تاريخا نهر النيل يبدأ، فقط، من عام 2010، ومنهية، بذلك، تاريخا حافلا للنهر عبر اتفاقيات مائة عام ماضية. وقعت على هذه المعاهدة، الانشقاقية، كل من إثيوبيا، وأوغندا، وتنزانيا، ورواندا، ثم انضمت إليها كينيا وبوروندي، فى ظل استمرار غياب الدور المصري، بتدارك الأمر لمنع الدولتين الأخيرتين من الانضمام للمعاهدة، والتى كانت تنتظران تحركا من مصر لم تجداه فى حينه،فانصاعتا للانضمام إلى عنتيبي، ليس حباً فى إثيوبيا ولكن نكاية فى مصر. حتى إن كينيا، والتى بينها وبين إثيوبيا خلافات كثيرة وعميقة، انضمت إلى المعاهدة بسبب التجاهل المصري.ثم جرت على الساحة أحداث سريعة ومتلاحقة، وجاءت أحداث ثورة 25 يناير 2011، لتستغلها الجارة الصديقة أثيوبيا أسوأ استغلال، بمضاعفة مواصفات السد التى عرضتها على مصر بسعة تخزينية 14 مليار متر مكعب، إلى ستة أضعاف هذا الرقم، لتعلن عن سدها الضخم بسعة 74.5 مليارمتر مكعب من نهر صغير،هو النيل الأزرق، لا تزيد متوسطات تدفقاته عن 50 مليار متر مكعب سنوياً! على هذه خلفية تاريخية سريعة لما جرى فى دائرة حوض نهر النيل، التى يتضح منها غياب الدور المصرى عن أفريقيا، بما فيها الدائرة الأهم، وهى دول منابع النيل التى تمثل 44% من سكان القارة، وبما أدى إلى فقدان مصر تأثيرها ومكانتها التاريخية فى دول منابع نهر النيل، تاركة الفرصة لإثيوبيا لمحاولة الانفراد بتلك الدول،وحشد التكتلات ضد مصر. ولن أخوض هنا فى اللوم على الإهمال الجسيم، لوزير رى بعينه، أو عدة وزراء جاءوا من بعده، خاصة فيما ورد عن موافقته على إدراج السدود الإثيوبية الأربعة، المزمع إنشاؤها على النيل الأزرق، ضمن مخطط تنمية حوض النيل الشرقي، بل وإرسال الدراسات الخاصة بها إلى البنك الدولى للموافقة على تمويلها!بالإضافة إلى ما أشرنا إليه من تقصير فى ترك الدول تنضم تباعاً لاتفاقية عنتيبى إلا أنه لن يفوتنى أن أذكر جهود وزراء رى وخارجية تاليين، ونجاحهما فى إقناع البنك الدولى بإيقاف تمويل تلك السدود الإثيوبية. ومع ذلك، فأيا كانت هذه الأحداث، فقد أصبحت من الماضي، ولنتحدث الآن عن المستقبل وكيف يتسنى لمصر تصحيح هذه الأوضاع، وكيف نضمن عدم بناء سدود أخرى فى إثيوبيا تؤثر على حصتنا من مياه النهر، لأن سدود دول منابع النيل الأبيض تبدو غير خطيرة، نظراً لقلة ما يصلنا من مياه هذه الدول، بل ويبدو من الدراسات أن بعضها مفيد وضروري! تلك هى المشكلة القادمة. أولى خطوات الحل، كما ذكرت فى مقال سابق، هى ضرورة وجود وزير دولة للشئون الخارجية، يتولى ملف أفريقيا، ومن داخله الملف الأهم لحوض نهر النيل، وأن يتم تشكيل لجنة عليا دائمة تضم خبراء المياه والسدود،والسياسة الخارجية، والدفاع، والأمن القومي، والقانون الدولي، والإعلام، مع خبراء فى التنمية بكل تخصصاتها، تكون مهمتها وضع استراتيجية جديدة للتعامل مع دول حوض نهر النيل،وعدم الاستهانة بدور أى دولة منها، خاصة أن اتفاقية عنتيبى قد ألغت شرط الموافقة بإجماع وتوافق الآراء، واستبدلت بأغلبية الآراء،وهم يمثلون أغلبية فعلية. ويترأس هذه اللجنة وزير الدولة الجديد للشئون الخارجية، وتقوم بوضع سياسة خاصة للتعامل مع كل دولة من دول المنابع على حدة،فى مجالات التعاون التجاري، والصناعي، والزراعي، والثقافي، وفى مجالات الري، والكهرباء، والتعليم، والصحة، بالإضافة إلى التعاون فى المجال العسكري، وهو أمر متروك للعسكريين القادرين على تقريره وتنفيذه على نحو كامل. كما يجب أن ينشط دور الخبراء المصريين بتلك الدول، فى جميع المجالات،خاصة فى مجالات الزراعة والري، فلا أستثنى أيا من هذه الدول، فى حاجتها الملحة للخبرات المصرية. ولا نغفل أهمية تقديم الرعاية الصحية سواء فى صورة خبراء أوبناء مستشفيات. ويتواكب مع كل هذا مساهمة مصر فى المشروعات المشتركة بين هذه الدول، مثل إنشاء محطات توليد الكهرباء، والمشاركة فى تنفيذ بعض السدود على أنهار هذه الدول دون التأثير على حصة مصر من المياه ولكن بما يساهم فى تنمية حقيقية فى هذه الدول. بالإضافة إلى قيام شركات المقاولات المصرية بتنفيذ مشروعات رئيسية وقومية فى هذه الدول، بل والمساعدة فى الاتفاق مع دول الخليج لتمويل بعض تلك المشروعات، إذا لزم الأمر.مع أهمية عودة البعثات الدراسية لأبناء هذه الدول إلى مصر، لما يحمله هؤلاء الدارسون من التقدير والامتنان والعرفان لمصر، عند العودة لبلادهم. إن أهمية هذه الدائرة، بالنسبة للأمن القومى المصري، تكمن فى تأثيرها على مستقبل وحياة شعب مصر، وهو ما دفع الرئيس السيسى إلى التحرك، بحنكة وحرفية فى هذا الملف، بزياراته المتعاقبة لإثيوبيا والسودان، وحرصه على لقاء رئيس الوزراء الإثيوبى المنتخب فى كل محفل دولي، لما يمثله من أهمية قصوى لديه.ولا يجب إغفال أهمية الدور الشعبى المصرى فى تحقيق الاتصال مع شعوب هذه الدول، من خلال جميع المنظمات والجمعيات المصرية، وعلى رأسها مجلس النواب المصري، ودوره فى التواصل والتوافق مع القوى البرلمانية التشريعية فى هذه الدول(لأنها هى التى تعتمد أى اتفاقيات تخص نهر النيل). وعلى الدبلوماسية المصرية وضع ملف دول حوض نهر النيل فى قمة أولوياتها. وفى النهاية أؤكد أن العمل المطلوب كبير، والجهد المبذول ينبغى أن يبنى على استراتيجية، وخطط متكاملة للتعاون مع هذه الدول، بما يحقق صالحهم، وصالح الأمن القومى المصري. إن أى اتفاق مصري، لتنمية التعاون فى هذا الاتجاه، من شأنه أن يحقق، فى المستقبل، مردودا عظيما لصالح مصر والمواطن المصري. وأنا بحديثى هذا لا أختص مياه نهر النيل لمصر وأهميتها فذلك معروف وجلى للجميع ولكننى أتحدث، بصورة أشمل، عن المصدر الدائم للحياة للمصريين لأبنائنا وأحفادنا. لمزيد من مقالات لواء أ. ح. د. م. سمير فرج