كان الإمام "السيوطي" صاحب ملكة علمية وأدبية، ويتمتع بثقافة موسوعية لا تبارى، وبالرغم من هذا ذهب إلى أن معرفته ببعض العلوم أقل من بعضها الآخر، لأنها لا تلائم طبعه، وليس المطلوب من العالِم أن يكون محيطا بكل شئ في الدنيا. ولكن هذه المعرفة على قلتها في بعض العلوم تفوق في تبحره الذي يقوم على العقل لا النقل، معرفة المعاصرين بأسرهم. فلم يكن هناك من يسبقه أو يجاريه في مطارحات الشعر، والحكايات الهزلية، والتعليق على المسائل الفقهية التي تتضارب فيها الآراء. وكان من أبرز طباعه الزهد، وإيثار السلامة، والدقة، والأمانة والنزاهة في أحكامه. وجلال الدين السيوطي (1444 م 1505م) يعد من الأسماء القليلة في التراث العربي الذي سجل بقلمه في القرن الخامس عشر، على طرائق العرب، سيرته الذاتية في كتاب «الحديث بنعمة الله» الذي حققته للمرة الأولى المستشرقة البريطانية " إليزابيث مارى سارتين"، وصدر في القاهرة في 1972 عن المطبعة العربية الحديثة، وأُعيد طبعه بتحقيق وتقديم أكثر وفاء للدكتور "عوض العباري" وصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة فى سلسلة «الذخائر» في 2003. ولأن هذه ليست النسخة الأم التي كتبت بخط المؤلف، نجد فيها كثيرا من المساحات البيضاء، أو الفراغات التي تشير إلى فقرات ناقصة في النص الأصلي، لم يؤثر أغلبها على المخطوط في هذه السيرة يتحدث السيوطي باستفاضة عن نشأته، ومنهجه في البحث والتصنيف، وعن وقائع الحسد التي تعرض لها في حياته، مشيرا إلي مسودات عدد من تصانيفه التي أتلفها، ولم يبق لها أثر. تُوفى والده وهو بعد في السادسة من عمره، ودرس العلوم اللغوية والدينية والتاريخية على يد شيوخ وأساتذة، وتأثر في مجال التدريس بالعلماء الباحثين عن الحقيقة، الذين تأدب بأدبهم، وكان منهم من يجمع في تحصيله المعرفي مثل السيوطي بين قراءة الكتب والمجلدات وبين سماع الروايات المتفرقة من العامة والنسوة والعجائز. واختلف مع العلماء الذين كان لهم معه ضجيج وعجيج أدى لزيادة شهرته في كل الأوساط والأمصار، وإلى ذيوع فضله كمجدد تعمر باسمه المجالس. ورغم احترام المعارك التي دارت حوله، لم يكن يقبل قط أن يحكم على أحد منهم إلا إذا أحاط بكل انتاجه، ووضع يده على القواعد التي يقيم عليها هذا الإنتاج في تاريخه وبمقياس زمنه. ومن جهة مقابلة رفض أن يناظره من ليس في مستواه، لأن المناظرة لا تعقد إلا بين أكفاء ولهذا وجه السيوطي الشكر لهؤلاء المقلدين الذين شنعوا به، وأرادوا الحط من شأنه، لأنهم أتاحوا له بعد طول احتمال فرصة ردهم، وشرح دعواه ومعانيه بالأدلة الساطعة. والاجتهاد في نظر السيوطي إضافة جديدة للعلم، تعتمد على استنباط مسألة غير مسبوقة، والاستدلال عليها حتى يبنى المجددون نظرياتهم وتطبيقاتهم على شئ مضى، وبذلك يجمعون بين القديم والجديد. ولم يكن يتصدى للمخالفين له، الذين يعتدون عليه دون أن يقترب منهم، إلا بعد نفاد صبره، ويتأكد من أنه لا مغزى لإهماله لهم، تصحيحا لصورته الشخصية وشمائله التي يريدون تشويهها، ولو بنقض أقوالهم ذاتها، ودفاعا عن كتبه التي تملأ الآفاق، خوفا من إساءة فهمها وطمسها واختفائها بسبب هذه الاتهامات الباطلة التي لا يتورع أصحابها عن وصف أعظم الشخصيات والكفايات بأسوأ الصفات. والسيوطي ممن يقرنون العلم بالخلق، فإذا افتقد العالم التواضع والأمانة والتريث والإنصاف، نفر منه وابتعد عنه، خاصة إذا كان متحيزا، وتتكدس في جعبته الإجابات الجاهزة، ويشغل نفسه بغير تخصصه. وعنده أن من يفسد قلبه تفسد سائر أعضاء جسمه. وما أكثر التشبيهات والأمثال الشعبية عن هؤلاء الخصوم الحمقى، التي يوردها السيوطي في سيرته وفى غيرها من كتبه. وعندما لم يستطع تجنب الدس والفتن والأذى الذي أصابه من جراء رشقه بالسهام، لم يجد أمامه إلا الاعتزال، مضحيا بكل شئ، وهو في حالة من مناجاة النفس وسط الصخب، وفى ذاكرته القوية الشئ الكثير من قصص العلماء الذين لاحقتهم القسوة من المبتدئين الذين لا علم لهم، وأحيانا من السلطة والتقاليد قبل أن تنضب ملكاتهم. ذلك أن النسق الفكري الذي دفع السيوطي إلي هذا الاعتزال لم يتغير في عالمنا العربي، ولا تزال ظاهرة الاعتزال والهجرة والصمت والموت المفاجئ تقع إلى اليوم، وتختفي من جرائها أسماء كان يمكن أن تثرى الحياة بالوعي والإبداع.