تشاء الظروف أن يصدر كتابى الجديد «نقد الفكر الدينى» (دار العين للنشر) فى نفس اليوم الذى كنت أشارك فيه فى ندوة نظمها معرض القاهرة للكتاب لمناقشة كتاب الباحث والمفكر المعروف «نبيل عبد الفتاح» تجديد الفكر الدينى» (المركز العربى للبحوث توزيع الأهرام). وقد بادرت فى مناقشتى للكتاب إلى إثارة قضية مهمة هى أن تجديد الفكر الدينى الذى نجح «نبيل عبد الفتاح» فى رسم خريطة معرفية متكاملة لأبعادها المختلفة لابد أن تسبقها دراسة متعمقة لنقد الفكر الدينى حتى نمهد الطريق لعملية التجديد الشاقة والتى لابد أن يشارك فيها رجال دين ومثقفون لديهم خليفة كافية فى مجال «علم أصول الفقه» بالإضافة إلى المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية والثقافية. والواقع أننى فى كتابى «نقد الفكر الدينى» تتبعت النماذج المتعددة للفكر الدينى والتى يمكن تلخيص مراحلها المتعددة فى عبارة واحدة هى «من يوتوبيا الإخوان المسلمين إلى جحيم داعش» مرورا بالفكر التكفيرى لجماعات إرهابية مثل جماعة «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية». وقد مارست نقد الفكر الدينى - وخصوصا فى صورته المتطرفة - منذ سنوات بعيدة إدراكا مبكرا منى لخطورة المشروع السياسى لجماعة الإخوان المسلمين، والذى يتمثل فى حده الأدنى فى الانقلاب على الدول العربية العلمانية وتحويلها إلى دول دينية تطبق الشريعة الإسلامية كما يفسرونها، وسواء تم ذلك عن طريق العنف المسلح، أو عن طريق الممارسة الديموقراطية التى تكفل لهم الأغلبية كما حدث فى مصر بعد ثورة 25 يناير، وفى حده الأعلى إحياء نظام الخلافة الإسلامية، وتوحيد كافة البلاد الإسلامية فى مشارق الأرض ومغاربها تحت رئاسة خليفة واحد. وقد مارست هذا النقد الجذرى لهذه التوجهات المتطرفة التى لو تحققت لأدت إلى تفكيك الدول العربية، والتغيير القسرى لهويتها الوطنية وتوجهاتها القومية. وقد بدأت هذا المشروع النقدى فى منتصف التسعينيات من القرن العشرين، وجمعت أبحاثى فى هذا المجال فى كتاب من جزأين عنوانه: "الكونية والأصولية وما بعد الحداثة: أسئلة القرن الحادى والعشرين" ونشرت الكتاب عام 1996 المكتبة الأكاديمية بالقاهرة. والواقع أن أهم ما فى الجزء الثانى من الكتاب هو تسجيل دقيق للمناظرة التى دارت بينى وبين الشيخ "يوسف القرضاوى"والتى دارت لأسابيع متعددة على صفحات جريدة "الأهرام". وقد بدأت المناظرة بمقالة نقدية عنوانها "الحركة الإسلامية بين حلم الفقيه وتحليل المؤرخ" نشرت فى الأهرام بتاريخ "1/8/1994 وسرعان ما رد عليها الشيخ "القرضاوى" بمقالة له بعنوان حول "الحركة الإسلامية بين حلم الفقيه وتحليل المؤرخ"، نشرت فى الأهرام بتاريخ 7/8/1994 حاول فيها تفنيد آرائى حول أوهام إحياء نظام الخلافة الإسلامية. وقد رددت عليه بمقال عنوانه "الإمبراطورية والخليفة" نشر فى الأهرام بتاريخ 15/8/1994واختتم الشيخ "القرضاوى" المناظرة بمقال أخير له عنوانه "تعقيب حول مقال الإمبراطورية والخليفة" نشر فى الأهرام بتاريخ 2/8/1994. كانت هذه المناظرة التى دارت بينى وبين الشيخ "يوسف القرضاوى" على صفحات "الأهرام" والتى كانت حوارا فكريا هى مقدمة رصدى لتحول الفكر النظرى لجماعة الإخوان المسلمين إلى فكر إرهابى يقوم أساسا على تكفير غير المسلمين بل وعلى تكفير المسلمين أنفسهم وخصوصا الحكام الذين لا يحكمون بالشريعة الإسلامية، والجماهير المسلمة التى تستسلم لهم ولا تخرج عليهم. وقد تبنت هذا الفكر التكفيرى جماعتان إرهابيتان مصريتان هما جماعة "الجهاد" و"الجماعة الإسلامية"والتى قامتا بأعمال إرهابية متعددة كان أبرزها واقعة ذبح السياح فى مدينة الأقصر، مما دفع بالدولة -أيام الرئيس السابق "مبارك"- إلى أن تشن حملات أمنية مشددة للقبض على أعضاء هذه الجماعات الإرهابية وتقديمهم إلى المحاكمة.. وبعد أن استطاعت الدولة استئصال شأفة الإرهاب بدأت بتشجيع من الأمن محاولات قادها زعماء هذه الجماعات الإرهابية فى السجون لإجراء مراجعات لفكرهم المتطرف، وتتضمن اعتذارهم عن سلوكهم الإرهابى ونيتهم فى التوبة والرغبة فى أن يعودوا من جديد مواطنين صالحين. وقد أسفرت هذه الحركة عن صدور أكثر من خمسة وعشرين كتيبا من "المراجعات" أشرف عليها عدد من كبار قادة هذه الجماعات، وأدت فى النهاية إلى الإفراج عن مئات من هؤلاء الإرهابيين وتأهليهم ليعودوا إلى المجتمع من جديد. وقد اهتممت اهتماما خاصا بكتب المراجعات ودرستها بصورة منهجية دقيقة لأكشف عن مفردات النظرية التكفيرية التى استندوا إليها فى سلوكهم الإرهابى. وقد غيرت جماعة الإخوان المسلمين نظرتها عبر الزمن والتى تمثلت فى رفض الديمقراطية وتبنى نظام الشورى حين أدركت أن الانقلاب بالقوة على الدول العربية العلمانية أمر مستحيل فآثرت إتباع تكتيك آخر هو محاولة الوصول إلى الحكم عن طرق الفوز بأغلبية المقاعد فى المجالس النيابية مما يتيح لقياداتها تشكيل الوزارة وبالتالى يبدأون مشروعهم التاريخى فى "أخونة الدولة وأسلمة المجتمع". تماما كما فعلت جماعة "الإخوان المسلمين" بعد ثورة 25 ينار حين استطاعوا الضغط لتنظيم استفتاء حول موضوع الدستور أولا أم الانتخابات أولا. وهكذا نجحت الجماعة فى الحصول على الأكثرية فى مجلسى الشعب والشورى وأقدموا بعد ذلك على ترشيح رئيس حزب "الحرية والعدالة" فى انتخابات الرئاسة وفاز فعلا "محمد مرسى" وأصبح رئيسا للجمهورية. وهكذا بدأت جماعة الإخوان المسلمين -عكس ما صرحوا به من قبل- من أن حكمهم سيكون "مشاركة لا مغالبة"- وأقصوا كل الأحزاب السياسية وانفرد مكتب الإرشاد بالحكم وهيمنوا على اللجنة التأسيسية حتى يصدر الدستور على هواهم الإيديولوجى. غير أن الانقلاب الشعبى فى 30 يونيو الذى دعمته بجسارة القوات المسلحة هو الذى أفسد هذا المخطط الذى رسمت خطوطه الولاياتالمتحدةالأمريكية متحالفة فى ذلك مع قيادات الجماعة، وخصوصا بعد أن صاغت نظرية متكاملة عن الإسلام الليبرالى وأبعد من ذلك قرارها الاستراتيجى بدعم كوادر إسلامية معتدلة حتى تكون جماعة الإخوان المسلمين فى الحكم هى حائط الصد ضد الجماعات الإرهابية الإسلامية وعلى رأسها تنظيم القاعدة. فى ضوء هذا العرض الوجيز عن المفردات الأساسية لمشروعى النقدى لتيار الإسلام السياسى قسمت الكتاب إلى ثلاثة أقسام القسم الأول عنوانه "الفكر الدينى بين التشدد والتجدد" ويتضمن أربعة فصول الأول عن المناظرة بينى وبين الشيخ "القرضاوى"، والثانى نقد الفكر الدينى التكفيرى وهو تحليل نقدى لكتب المراجعات التى ألفها عدد من قادة الجماعات الإسلامية الإرهابية. والثالث عن محاولة تجديد البحث عن الإسلام والديمقراطية للتعرف على مواطن اللقاء، والأخير عن النظرية الأمريكية عن الإسلام الليبرالى. أما القسم الثانى فموضوعه "تشريح للسلوك الإرهابى تحليل ثقافى" وهو يضم فصلين الأول عن ظاهرة الإرهاب والثانى تشريح لأبعاده. والقسم الثالث والأخير تحليل لكتاب خطير ألفه منظر تنظيم "القاعدة" وعنوانه "إدارة التوحش والذى كان إرهاصا فى الواقع لتطبيق تنظيم "داعش" لهذا النموذج النظرى الذى صاغ مفرداته. وأتمنى أن يرسم الكتاب بفصوله المختلفة للقارئ المهتم خريطة معرفية متكاملة أبرز ما فيها تحول الفكر التكفيرى إلى إرهاب متوحش على يد تنظيم "داعش" الذى يمثل بربرية جديدة أصبحت تهدد الأمن الإنسانى والسلام العالمى. لمزيد من مقالات السيد يسين