يأتى يوم 25 يناير المسجل فى أجندة مصر احتفالا بعيد الشرطة وهو ذات اليوم الذى انتفض فيه الشباب في 2011 ، ليطالبوا النظام بالعدالة الاجتماعية والحق فى حياة كريمة، ولتتحول هذه الانتفاضة إلى ثورة في 28 من الشهر نفسه لتتسع المطالب لتشمل تغيير النظام إلى آخره من أحداث جسام مرت على مصر حتى 30 يونيو 2013 لتنطلق ثوره ثانية ثابتة الخطى منذ انبثاقها تطالب بتغيير نظام مجحف ظلم شعبه وتعدى على حرياته وقمعه. هاتان كانتا ثورتا مصر فى الألفية الثالثة ميلاديا ولم يقف أثرهما ونتائجهما على مصر فحسب، بل غيرت نتائجهما مجرى ومخططات العالم أجمع خاصة ثورة 30 يونيو التى فرضت على العالم واقعا جديدا وألزمت مخططيه بإعادة التفكير بقوة وهيبة مصر وأن جيشها يلبى نداء الشعب بمجرد اللجوء إليه ، ليسرع الخطى «مسافة السكة» فى تلبية النداء ليقف الجيش والشعب معا مثل «الحزمة» لا تفترق. ثورة يناير تعيد الذاكرة إلى أحداث نهاية الدولة القديمة في 2200ق.م ، عندما أصيب النظام الحاكم بالضعف والوهن..وانتشرت الفوضى الإقطاعية خلال حكم الملك بيبى الثاني، وازداد نفوذ حكام الأقاليم وأتاح لهم فرصة الاستقلال الإدارى عن السلطة.وساد الاضطراب والتفكك الاجتماعي، وانخفضت القدرات الفنية والإنتاجية. ومع هذا الوضع المتدنى فى أحوال البلاد ، ظهر اتجاه صوره البعض على إنه ثورة اجتماعية وفكرية ومعه ينتهى عصر الدولة القديمة الذى بلغت فيه مصر أوج الإزدهار والتقدم وتدخل البلاد مرحلة أخرى فى تاريخها وقد رأى البعض من المؤرخين أن هذه الثورة ما هى سوي انتفاضة حيث لم ينتج عنها تغيير جذرى واضح فى النظام الحاكم، بل وهنت الدولة أكثر وتفشت الجريمة وسرقت المقابر وضاعت هيبة القانون وتسلل البدو الآسيويون عبر الحدود الشرقية الى مصر بغية النهب والسلب ثم استقروا فى ربوع الدلتا ، وسميت تلك الفترة ب«عصر الاضمحلال الأول» ، فيما سماه البعض الآخر ب «العصر المتوسط الأول» الذي امتد من 2200 وحتي 2040ق.م، وقد حدده مانتيون (أحد أهم المصادر فى التاريخ المصرى القديم) الى فترتين ، الأولى تتمثل فى الأسرتين 8،7 ومقرها منف ، والفتره الثانية الأسرتين 10،9 ومقرها أهناسيا فى بنى سويف. على الرغم من أن ثورة 2200ق،م لم تنتج نظاما حاكما جديدا كما حدث فى أحداث ثورة يناير2011، الا أن الأبعاد ونتائج بعض من الأهداف كانت الى حد كبير متقاربة فى الثورتين حيث خلقت ثورة2200ق.م وعيا مجتمعيا بحقوق المواطن، وحطمت جانبا من الهالة المقدسة التى كانت تحيط بالملك ، وآمن المصريون بالمساواة وأن التميز للأفضل عملا والأكثر استقامة..وساعدنا على فهم ومعرفة الأحوال فى هذه الفترة، الأدب الذى تميز بالواقعية والمناشدة بالإصلاح وسرد الإطروحات التى ترسم للمجتمع والحاكم كيفية الوصول الى حكم أفضل ينقذ البلاد من الأخطار التى أحدقت به ..ومن أشهر تلك الكتابات ما كتبه الأديب «إيب آور» ونسخت كتاباته فى الدولة الحديثة فى بردية محفوظة فى متحف ليدن بهولندا، وقد وصف أحوال الزمان بعد ثورة 2200ق.م، وهناك بردية أخرى محفوظة فى متحف برلين ترجع للأسرة 7 يصف بها أحد الرجال شكل الحياة فيقول:«لمن اشتكى اليوم؟ لقد أصبح الناس يعشقون الشر وأضحى الخير يداس تحت الأقدام..لمن اشتكى اليوم؟ لقد أصبح الإخوة عديمى النخوة وكل من فيهم وضيعا ، والأصدقاء كارهين ... لمن اشتكى اليوم؟لقد اختفت الرحمة وساد السوء فى كل مكان». لقد نجحت المؤسسة العسكرية في 2011م في الحفاظ على وحدة البلاد والصعود تدريجبا للخروج من مأزق الفوضى وتفشى الجريمة وتسليم السلطة الى رئيس كان يتوقع أن يدير أمور البلاد على مذهب ومبدأ ثورة يناير..الا أن الأمور خرجت عن نصابها حيث ظهر تخبط واضح من محاولة احتكار الحكم وتهميش الشعب واقتصار المناصب على فصيل معين الى جانب العمل علي تفتيت الدولة ووحدتها...ضاربين بعرض الحائط إرادة أغلبية الشعب بحياة كريمة آمنة...فما كان إلا قيام شعب مصر للمرة الثانية بثورة عارمة هزت العالم بأسره ليهب الجيش لينقذ الشعب ويقف الى جانبه ويحنو عليه لتتنفس مصر مرة ثانية الصعداء. ومع استمرار تفشى الفوضى فى ظل حكم الأسرة 7 فى منف، ظهرت أسرة قوية فى أهناسيا بمحافظة بنى سويف الحالية، ونجحت فى القضاء على بعض القبائل التى دخلت مصر من الصحراء الشرقية واستطاعوا ظاهريا توحيد مصر، إلا أن مؤسس تلك الأسرة كان ظالما متعسفا، فبدلا من أن يكون قويا ناصفا يقضى على الفوضي، ذهب هو ومن معه وراء تحقيق أهداف شخصية تعنى ببيت أهناسيا وكان ذلك من2160 وحتي 2040ق.م ، إلي أن نشب صراع شرس بين أهل أهناسيا وطيبة، انتهى بانتصار الطيبيين وجلوس منتوحتب الثالث على عرش مصر وتوحيد البلاد وإعادة الأمن والإزدهار، وبدأت حقبة جديدة فى تاريخ مصر تسمى ب«الدولة الوسطي« استعادت فيها مصر هيبتها الدولية، وتمكنت من تأمين حدودها ، ليتم تدشين عصر جديد من الإنتاج والإزدهار الفني، ولتسترجع مصر علاقاتها بجيرانها، والتف الشعب حول الحاكم فى ترنيمة عذبة. إن ما كتبه هيرودوت فى الفقرة 35 من كتابه الثانى ويقول فيه :«إن مصر صاحبة القدر الأعظم من العجائب ولها من عظيم الأعمال ما لا يستطيع اللسان أن يصفه» وفى الفقرة 77 من نفس الكتاب يقول «المصريون أكثر الشعوب التى عرفتها علما ومعرفة، وهم يصرفون جل جهدهم لتذكر الماضي، وهم أكثر الشعوب التى عرفتها علما». حتى يأتى أفلاطون ليقول فى مصر «إنها أرض صامدة تمكنت من احتواء أحداث جسام لم يستطع غيرها الصمود لها، إنها دولة النظام والقانون والسجلات، إنها أرض الحكمة والحكماء الذين يحققون الاستقرار والاستمرارية» ...لم تكن تلك الكلمات التى وصف بها فلاسفة ومؤرخو العالم القديم مصر سوى كلمة حق عن طبيعة الشعب المصرى الصلد الذى لا تلين عزيمته. لمزيد من مقالات د. إنجى فايد