كم أتمنى أن تتاح الفرصة للبعض لمن يعشقوا السفر والترحال أو الدارسين أو حتى المغتربين أن يجوبوا بعض البلدان التى بها آثار لحضارات قديمة مثل إيطاليا واليونان وبعض الأماكن فى بلاد المغرب العربى ليشاهدوا ما يبهر العقول، فدائما ما أكون مبهورة حينما أشاهد مناظر عن البيئة المصرية تزين جدران وأرضيات بعض الفيلات والقصور بإيطاليا التى ترجع ل2200 سنة مثل تصوير النيل وطائر أبوقردان وفرس النهر ونبات اللوتس والبردى كما فى منزل فاون بومبى غرب إيطاليا.. مبهورة حينما أرى نموذجاً معمارياً يعبر عن صورة متكاملة لمنطقة أبوقير بالإسكندرية (كانوبس قديما) داخل بنيان إحدى الفيلات التى ترجع للقرن 2 ق. م كما فى فيلا هدريان بتيفولى - إيطاليا.. مبهورة حينما أشاهد بقايا معابد للآلهة المصرية ومقابر هرمية انتشرت فى ربوع أراضى العالم القديم مثل معبد إيزيس فى روما وأثينا، ومقبرة كستيوس ومدراسن الهرمية ببلاد المغرب العربى القديم ومقبرة جوبا الثانى الهرمية فى موريتانيا بأفريقيا. ليس هذا فحسب فكم أكون مبهورة حينما أقرأ ما نسجه بعض من مؤرخى العالم القديم من نصوص مسرحية قائمة على الأساطير المصرية القديمة، مثل ما عرضه بلوتارخوس المؤرخ اليونانى لأسطورة إيزيس وأزوريس بسلاسة رسخت فى عقول الشعوب القديمة فكرة أن مصر بلد التبجيل والتعظيم لعقيدتها.. مبهورة حينما أدرس فن الرسم والتصوير بأساليبه الأربعة الذى ظهر فى إيطاليا بمدينة بومبى فى القرن 2 ق. م، متأثراً بتقنية الفن المصرى القديم، وكيف أن الأسلوب الثالث من هذا الفن المعروف باسم الطراز الزخرفى هو تعبير حقيقى عن مصر، ومبنى على عنصرين أساسيين هما اختيار موضوعات وأشكال مستلهمة من الحضارة المصرية مثل أبى الهول واللوتس.. مبهورة حينما أقرأ أن أغلب الفلاسفة والمؤرخين القدماء لم تخل كتاباتهم من ذكر أو وصف لمصر. وتظل كل تلك الكلمات خيالاً ممزوجاً بواقع إلى أن يأتى ديودوروس الصقلى فى أواخر القرن 1 ق. م. وبداية الأول الميلادى ليصف مصر وصفاً مفصلاً حقيقياً بأن الحضارة المصرية مبنية بمفاهيم محددة بالقانون والعرف والتقاليد والدين والحاكم الذى يحفظ كل هذه النظم من أجل استقرار البلاد وسلامتها. مبهورة بتلك العظمة التى فرضتها مصر على العالم القديم وكيف لهيرودوت أن يصف مصر فى الفقرة 77 من كتابه بأن المصريين هم أكثر الشعوب التى عرفها علماً ومعرفة. هذا الانبهار كان دائماً يصاحبه إحساس بالمرار والقهر وسؤال دائم ليس له جواب ماذا جرى للمصريين! كنت مقهورة لما آلت إليه مصر فى الآونة الأخيرة من تراخ وتراجع وغياب لروح الوطنية والشخصية المصرية الحقيقية وغياب للنظام والموضوعية، حتى جاء يوما 25 و28 يناير بثورة تعيد لمصر مجدها وتفرض على التاريخ أن يسطرها، وعلى العالم أن يبجلها ويحترمها، ليكتب من جديد المؤرخون والفلاسفة والمحللون والساسة عن مصر وشعبها.. إن ما حدث يعد أعظم ثورة حضارية سلمية علمية تحيى مشاعر العزة لكل فرد فى مصر فهى بحق أقوى ثورة شعبية فى الألفية الثالثة، هى بحق ثورة الحضارة، ثورة الفراعنة تمتد جذورها ل2000 سنة ق. م فمع هذا التاريخ حدثت أول ثورة اجتماعية شعبية فى العصر الفرعونى فى أواخر حكم الملك بيبى II بسبب انتشار الفساد وضعف وغياب الملك عن تسيير مقدرات شعبه وانتشار الفوضى الإقطاعية بالبلاد خلال حكمه الذى استمر قرابة 90 عاماً وسيادة سيطرة حكام الأقاليم فى البلاد وتسكين ذويهم من الأبناء والأقارب فى وظائف الدولة وتفشى الثراء الواضح بين هؤلاء الحكام واحتكارهم بشكل أو بآخر لثروات البلاد وما نتج عن هذا كله من طبقية واضحة بين الفقير الكادح والغنى، فقام الشعب بثورة اجتماعية وفكرية، ورغم أنها لم تسفر فى ذلك الوقت عن أى تغييرات سياسية ملموسة كتغيير نظام الحكم فإنها خلقت نوعاً من الوعى بحقوق الإنسان ودعمت من اعتزازه بكرامته وشخصيته، كما حطمت جانبا من الهالة المقدسة التى كانت تحيط بالملك فى العصر الفرعونى. ومنذ ذلك الحين أصبح المصريون يؤمنون بالعدالة الاجتماعية وظهرت طبقة جديدة لا تعتز بحسب أو نسب بقدر ما تهتم بالفردية والمجهود الفردى وقدرة المواطن فى التعبير عن نفسه من وحى أفكاره. ونحن الآن فى الألفية الثالثة: يبادر الشباب بثورة.. يدعمها الشعب بقوة.. يلبى القدر بنجاح ندائها.. ويستمر الطريق بخطوات رزينة هادئة بعيدة عن الانفعالية والشخصية والفئوية نلمسه بوضوح فى يوم 19 مارس يوم الاستفتاء على الدستور وإعلان النتيجة، لتعود مصر محط اعجاب وحديث العالم كما كانت فى عيون العالم القديم. فنجد فى ماديسون بولاية ويسكانسون بأمريكا قيام سكان الولاية بمظاهرة ضد الحاكم رافعين لوحات مكتوباً عليها نتظاهر مثل المصريين. عظيمة يا مصر باعتدالك فى الفكر والتنفيذ.