«حاسبته حساب الملكين، بالمللى وبالسحتوت» عبارات يكررها المصريون كثيرا، للتأكيد على براعتهم فى المحاسبة والتقدير وصحة القياس، رغم افتقادهم المزمن للدقة وميلهم للمبالغة وتوجسهم من الأرقام، أجدادنا الفراعنة كانوا على العكس يقيسون كل شىء بكفاءة نادرة، ومازالت طريقتهم فى حساب بعض المعضلات الرياضية لغزا لم يحل الى الآن, وقصة النبى الجميل يوسف فى مصر هى بداية تاريخ علم الإحصاء، فهى قصة أكبر عملية حصر، أنجزها عباقرة فى الحساب لتأمين موارد دولة بأكملها، لأربعة عشر عاما، وفى سقارة مقبرة رائعة تضم مشاهد للمحاسبين وهم من هم كون فى عد وحصر كافة الأشياء، الأجداد كانوا يدركون قيمة الأرقام جيدا. ولكن مياها كثيرة جرت، ووصلنا الآن الى هذه الحالة المخجلة من الارتجال والترقيع والعشوائية، والاستهتار الكامل حتى بما تسجله لنا الساعات والعدادات: عداد الماء, عداد الكهرباء, عداد التاكسي، عدد ركاب القطار ومن يمكن نقلهم بمعدية ما حياتنا كلها تمضى بالتقريب، وبالمتوسط وبالمتفق عليه فيما بيننا، وخلينا ع البركة، فالعد يقلل الرزق، وبلاش مقاطعة. هذا الاستخفاف بالأرقام ونحن فى زمن الثورة الرقمية له أسباب مركبة، كان العلامة ابن خلدون يرجع تطير المصريين وخفة أرواحهم وولعهم بقصص الثروة المفاجئة، إلى وجود كم كبير من الكنوز والثروات المخبأة والأثار المدفونة بالفعل تحت أراضيهم، ولذا فإن الثراء القدرى بلا جهد أو حسابات، أمر وارد الحدوث، بل ومتكرر، كان الرجل يبحث عن أسباب موضوعية لحالتنا العقلية، موقفنا من الأرقام هو بلا شك ابن عوامل متداخله، بدءا من تتابع موجات الاحتلال، والخضوع لسلطات أجنبية تستأثر بالمقدرات، والبقاء طويلا فى موقع المفعول به، الذى لن يفيده الحساب، وصولا الى ركود البنية الاقتصادية وتكراريتها ،وانهيار نظام التعليم وتخلف بنية الثقافة، وسيطرةالفساد والتحايل، تحت غطاء خطاب دينى ضيق. وأنا أميل الى أن الاستبداد المتواصل قد لعب دورا جوهريا فى تشكيل عقولنا، لأنه يبدأ هيمنته بالسيطرة على الوعى فى الأساس، وذلك بتسييد خطاب إذعان سياسى ودينى معا، خطاب يمنع وصول الناس الى قناعات وفقا لحسابات يقينية. الاستبداد يعيش على آلة دعاية مهمتها الأولى هى إخفاء الحقائق وخلط الأوراق. كانت الدولة الناصرية تقول لنا مثلا، إن الرئيس قد نجح فى الاستفتاء بنسبة 99.999%، وهذا يعنى أنها قادرة على رصد ذلك النفر من غير المؤيدين وسط كل مائة الف مصري، ولكن هذا النظام نفسه كان لا يعرف عدد من اعتقلهم بالجملة, هذا التجاور العجيب بين الدقة المريبة والتغافل التام، مازال قائما ويواصل امتداده فى خطابنا الرسمي.ترفض أجهزة الدولة عرض التقارير التى تصدرها أجهزة رقابية على الناس، رغم أن الدستور وهو انجازنا الكبير، يقول لنا أن السيادة للشعب، وأن للمواطن الحق فى المعرفة، وأنه لا أحد فوق المحاسبة، ومازلنا عاجزين الى الآن عن تحديد من أضاع ومن نهب؟ الرعب من الأرقام تجسد مؤخرا فى الهجوم على تقرير الفساد الذى أعده الجهاز المركزى للمحاسبات، وهو جهاز رسمى, وظيفته مراقبة ومراجعة حسابات الدولة، يضم جيشا من الخبراء فى علوم المحاسبة والإحصاء، يرى التقرير أن فاتورة الفساد فى مصر قد بلغت 600مليارجنيه، وهو رقم بالغ القسوة، وربما أقسى من مشاهد البؤس التى تحاصرنا. لانعرف مدى دقة هذا التقرير، ولكننا نعرف جيدا، أن أى أرقام مغايرة لما يقرره النظام هى كالعادة وليدة المؤامرة والعمالة والخيانة. وهنا يبرز السؤال: ماذا كان سيكون عليه الحال لو صرح السيد جنينة بأن معدلات الفساد قد انخفضت؟ أعتقد أن التهانى كانت ستنهمر فوق رءوسنا، احتفالا بمصرع الفساد، لتبدأ على الفور حفلات الإشادة بأزهى عصور الأمانة والشفافية. مؤسسات الدولة تتعامل مع الفساد وكأنه مفهوم مجرد، أو بصفته شبحا تحاربه وحدها فى الظلام، بينما يكتوى الناس بناره بشكل ملموس فى وضح النهار، ويشاهدون ثماره بأعينهم فى كل مكان، إنها نفس الطريقة التى تدافع بها عن هيبة الدولة وكأنها أمر لا علاقة له بكرامة المواطن، كما أصبحت الوطنية هى الدعم غير المشروط للنظام، وما يتطلبه ذلك من طاعة وصبر وتضحيات، ولا مجال هنا للحديث حتى عن غيرة المواطن على الصالح العام. ستظل الأرقام حاسمة بطبيعتها، تماما كما هى تسمية الفاشل والفاسد باسمه. والوضوح يؤرق أى سلطة، فالانظمة الحاكمة تريد أن تقرر وحدها ما يسمح بمعرفته, ومن يمكن أن تضحى به ومتى، وتحجب جدلها الداخلى عنا، لتظل متعالية على الواقع ككيان غامض يصعب تعيينه، كيان يسعى للقدرة المطلقة بلا مراجعة. وهذا الطموح للقدسية ملمح ملازم لكافة النظم الاستبدادية. علما لحساب كما قال ليوناردو دافنشى لا يتعامل مع الغيب، فهوعلم الكميات المنفصلة. واحد هو فقط واحد، قد يكون كتابا أو ملاكا أو بيتا أو حلما، الرقم يشير إلى الكم ولعلاقة لهب النوع، ولكن يبقى أن الوصول إلى الأرقام الصحيحة واختيار منهج الحصر وتحليل الدلالات، هو مادة التفكير الأساسية. يبدو أن وعينا كمصريين بضرورة تأمل الأرقام، يتطور الآن بسرعة تسبق حركة دولاب الدولة، وهذا هو الجانب المشرق فى الحكاية، وربما ننجح فى الانتقال من حصة الانشاء إلى حصة الحساب، لنحدد بالورقة والقلم، كما فعل المصريون القدماء، حجم النزيف، ولنبحث بشكل جماعى خلاق عن سبل مواجهته، وهذا حقنا بلا جدال، فالفساد تصنعه الأنظمة وتحميه القوانين وندفع وحدنا ثمنه كاملا. لمزيد من مقالات عادل السيوى